gov-jomaa-responsabilite-politique

بقلم محمد سميح الباجي عكّاز،

الصراع الشعبيّ من أجل الحقوق و الحريات و الكرامة بين مكوّنات المجتمع المدنيّ والنظام القائم كان في مجمله حقوقيا موجها ضد آلة القمع و الفساد النوفبرية. إلا أنه تحول بعد 14 جانفي إلى صراع سياسيّ بامتياز بين الأحزاب وشبكات تحالفاتها على تونس وعلى غنيمة السلطة. هذا الصراع الذّي أدّى إلى إسقاط حكومتي الترويكا، واستقرار الرأي على “حكومة توافق وطنيّ” برئاسة وزير الصناعة مهدي جمعة في آخر حكومة للنهضة، لم ينهي التجاوزات والانتهاكات التي طالت المواطنين واللوائح والقوانين في مختلف الوزارات، ولكنّ الذّي تغيّر أنّ الجميع اتفّق ضمنيّا على غضّ الطرف عن أخطاء الحكومة الجديدة “التكنوقراطيّة” إلى ما ستفرزه الإنتخابات المقبلة. ولاح أنّ عرفا جديدا بدأ بالتشكّل في تونس، وهو أن تكون “تكنوقراطيّا” يعني أن تكون فوق المسائلة وخارج ارتدادات تحمّل المسئوليّة.

لقد شهدت الشهور الأخيرة من حكم مهدي جمعة وفريقه عديد الإنتهاكات في اغلب الوزارات، ولكنّ ما أثار الإرتياب هو الصمت المطبق لأغلب مكوّنات المشهد السياسيّ والمدني في تكرار ممجوج لظاهرة اللامبالاة في سنوات الصمت التي لم تزل راسخة في الذاكرة لولا بعض الأصوات التي كانت وما زالت تغرّد خارج السرب.

جرد الحسابات

خلال الشهور القليلة الماضية، شهدت العديد من الوزارات والإدارات التابعة لها العديد من المشاكل والهنّات التي مرّت مرور الكرام دون متابعة أو حسم ودون أن يتحمّل أيّ طرف مسئوليته في تحمّل الموضوع أو تبعاته.

أوّل التجاوزات التي سجّلتها حكومة التوافق الوطنيّ كانت في بداية مسيرتها حين وجّهت دائرة المحاسبات تحذيرا للوزراء الجدد بعد انقضاء مهلة الكشف عن ممتلكاتهم داعية إيّاهم إلى الإستجابة لهذا التحذير وإلاّ تمّت إقالتهم طبقا للقانون.

طبعا التجاوزات والأخطاء لم تتوقّف عند هذا الحدّ، بل شملت أغلب الوزارات التي عرفت تهاونا في تطبيق القانون أو تجاوزات قانونيّة ومهنيّة أو طبّقت سياسات عقيمة.

البداية كانت مع وزارة السياحة التي أسندت مهام تسييرها إلى السيّدة آمال كربول، تلك الشخصيّة التي أثارت الكثير من الجدل منذ الوهلة الأولى التي طُرح فيها اسمها على الملأ، والسبب هو اتهامها بزيارة إسرائيل، تلك اللفظة التي حاولت تفيها ثمّ تلطيفها عبر إبدال كلمة إسرائيل بفلسطين متناسية أنّ بوابة الدخول إلى الأراضي الفلسطينيّة الواقعة تحت سلطة منظّمة التحرير الفلسطينيّة هي الأردن وليست تلّ أبيب.

الجدل حول هذه الوزيرة التي تمسّك بها رئيس الحكومة ورفض قبول استقالتها لم ينتهي مع تثبيت تعيينها بل استمرّ مع اكتشاف تورّطها رفقة الوزير المعتمد لدى وزير الداخلية المكلف بالأمن رضا صفر، على خلفية سماحهما بدخول سياح إسرائيليين لتونس وتقديم ما يزيد عن 80 نائبا في المجلس الوطني التأسيسي طلبا لمساءلتهما، ومرّ الموضوع مرور الكرام في خضّم المزايدات السياسيّة.

وأخيرا وليس آخرا، الأزمة التي اندلعت بين رئيس الجامعة التونسيّة للنزل والوزارة على خلفيّة تعبير الجامعة عن استيائها من النتائج التي حققتها السياحة منذ تولي السيدة أمال كربول الوزارة. وأدانت الجامعة في بلاغ أصدرته حينها في أوائل شهر جوان الفارط، اقتصار مهام وزارة السياحة على الظهور الإعلامي والترويج لشخص الوزيرة عوض التركيز على القيام بإجراءات من شأنها النهوض بالسياحة وتجاوز التراجع الحاصل في عدد السياح وفي نوعية الخدمات السياحية وإهمال تطوير جودة المنتوج السياحيّ وتسهيل الإجراءات المالية الخاصّة بأهل القطاع.

هذا وقدمت الجامعة التونسية للنزل جملة من الإحصائيات و الأرقام التي تؤكد التردي الذي يسير إليه القطاع، كتراجع نسبة السياح الأوروبيين بنسبة 2% في 31 ماي 2014 مقارنة بنفس الفترة من 2013 إلى جانب تراجع مداخيل القطاع ب 32.2% مقارنة مع سنة 2010. وكما غيرها من الحوادث، مرّت المسألة مرور الكرام دون أن يتمّ محاسبة الوزيرة عن تحركاتها وسياساتها ونتائج عملها خلال الفترة المنقضية.

وزيرة السياحة لم تكن الوحيدة التي أثارت اللغط وتجاوزت المحاسبة والمراقبة، فما حدث أخيرا في قاعة اجتماعات الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة من اجتماع بين رئيسة المنظمة ودبلوماسيين وسفراء تونسيّين يثير الكثير من الاستغراب حول تداخل مهام هذّه المنظّمة والدولة، والأهمّ كيف تتغاضى الوزارة عن هذا التداخل وتسكت عن تدخّل منظّمة الأعراف في الدبلوماسية التونسيّة وإعطاءها توصيات مهما كان نوعها.

وزارة العدل لم تكن هي الأخرى بمنأى عن التجاوزات والارتجاليّة في أخذ القرارات، فقضيّة التلميذ سامي فرحات ما تزال قيد النظر، دون محاكمة منذ شهر فيفري الفارط، بعد اتهامه باقتحام مقرّ حركة النهضة، رغم التحرّكات العديدة التي قام بها المجتمع المدني من أجل وضع حدّ لهذه المظلمة وحسم قضيّة هذا الشّاب.
كما كان لوزارة العدل جولة أخرى مع المنتفعين بالعفو التشريعي العامّ بعد أن قرّرت رئاسة الحكومة إيقاف الانتدابات، لتوقف الوزارة انتداب بعض المنتفعين بالعفو ومن ضمنهم أيّوب عمارة ووليد عزّوز وغيرهم من الشباب الذّين دخلوا في إضراب جوع وحشيّ كاد ينهي حياتهم في أكثر من مناسبة بعد أن طالت مماطلة الوزارة وتعلّلت هذه الأخيرة بضياع ملّفاتهم. لتحسم المسألة بلقاء بين الوزير والمضربين ووعد باستئناف الحوار حول وضعيّاتهم دون أن نسمع بمسائلة لمن اتخّذ القرار أو أضاع ملفّات هؤلاء.

كما مضت مسألة الحكم في قضايا الشهداء وجرحى الثورة ومحاكمات شباب الثورة في طيّ النسيان وفي غمرة حملة الترهيب الاقتصاديّ والحرب على الإرهاب.

بدورها لم تغب وزارة التعليم العالي عن هذا السياق، فبعد ملفّ الفساد الذّي تناولته “نواة” في شهر فيفري الفارط حول منظومة الإعلامية في الوزارة، دخلت الوزارة في صراع مع الاتحاد العام لطلبة تونس في شهر افريل من سنة 2014 حين أعلن أمينه العام الدخول في إضراب جوع على خلفية تنكر وزارة التعليم العالي للاتفاقيات الممضاة مع الإتحاد بخصوص الترفيع في المنحة الجامعية وتوسيع عدد المنتفعين بها وتشريك الإتحاد العام لطلبة تونس في كافة لجان إصلاح منظومة التعليم العالي ومراجعة و إصلاح نظم احتساب الأعداد والامتحانات إلى جانب تمكين الإتحاد من حقه في استرجاع أرشيفه وتسوية وضعية قدماء الإتحاد العام لطلبة تونس المفروزين أمنيا.

كما عمدت الوزارة إلى إحالة عدد من نشطاء الإتحاد على القضاء على خلفية نشاطهم النقابي، ولم تُحلّ الأزمة هي الأخرى إلاّ بعد زيارة وفد من ممثّلي الوزارة والتعهّد بالإيفاء بما تمّ الاتفاق عليه سابقا. وكالعادة، لم يسأل أحد عن من يتحمّل مسئوليّة المماطلة وتبعاتها.

وزارة النقل كانت حاضرة هي الأخرى في سجلّ الأخطاء والحوادث التي تضرّر منها المواطنون، ولعلّ أبرزها انقلاب القطار الرابط بين ولايتي الكاف وتونس على مستوى منطقة قعفور في شهر جويلية الفارط وهو ما أسفر عن مقتل 6 ركّاب وجرح 65 آخرين.
كما تكرّرت حوادث السكّة الحديديّة عقب اصطدام قطارين على خطّ الضاحية الشماليّة للعاصمة ممّا نتج عنه جرح خمسون مواطنا كانوا على متن القطارين. ردّة وزارة النقل كانت فتح تحقيق في الحادثتين لتحديد الأسباب والمسئوليّات. في انتظار أن تضمحّل المسالة من الذاكرة لتسقط معها المسئوليّات.

أمّا وزارات الشؤون الاقتصاديّة، كوزارة التجارة وزارة الماليّة ووزارة الصناعة، فما تزال ماضية في سياساتها التي تسطّر للبلاد منعطفا اقتصاديّا خطيرا يمسّ لا بمشمولاتها فقط، بل بمسألة السيادة الوطنيّة ومستقبل ثروات البلاد وحالة الاستقرار الاجتماعيّ.

فالزيادات الأخيرة في مختلف المواد الاستهلاكيّة مرّت وتمرّ في طيّ الكتمان بشهادة رئيس منظّمة الدفاع عن المستهلك الذّي صرّح في أكثر من وسيلة إعلامية عن ارتيابه ممّا يحدث في وزارة التجارة من تمرير للقرارات الأحاديّة دون الرجوع للمنظّمة أو الأخذ بعين الإعتبار الوضع الإقتصاديّ الراهن، في ممارسة تشبه على حدّ تعبيره ممارسات الوزارة في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ.
أمّا وزارة الماليّة، فما زالت ماضية في سياساتها الخاصّة بإعادة هيكلة الإقتصاد الوطنيّ وخصوصا وضعيّة القطاع العموميّ وهو ما عبّر عنه صراحة السيّد سامي العوّادي عضو المكتب التنفيذي للإتحاد العام التونسي للشغل، مشيرا إلى أنّ الوزارة والحكومة عموما، تتجاوز صلاحيّاتها عبر الدفع باتجاه إعادة هيكلة القطاع العمومي والخوض في المسائل الإستراتيجية التي تهمّ القطاع الاقتصاديّ خلال جلسات الحوار الوطني الاقتصاديّ وهو ما أدّى في النهاية على تعليقه منذ ما يزيد عن 3 أشهر.

واللغز الأكبر يبقى وزارة الصناعة بامتياز التّي ورغم بعض المحاولات الإعلامية وتحرّكات المجتمع المدنيّ ما تزال ماضية في إتباع سياسة الغموض وخصوصا فيما يتعلّق بالمسألة الطاقية والثروات الطبيعيّة في تونس. حيث كان تصريح رئيس الحكومة الأخير بخصوص المضيّ في عمليّة استخراج غاز الشيست آخر شطحات الوزارة بعد سلسلة من الإنتهاكات التي تناولتها نواة مطوّلا بخصوص التجاوزات التي تتعلّق بمنح رخص الإستغلال والتنقيب المتورّطة فيها رئيسة منظّمة الأعراف شخصيّا، وتجديد منحة استغلال الملح بما يعرف بقضيّة كوتوزال والتعتيم الكبير على الإتفاقيات والعقود المبرمة في مجال الطاقة وإهمال أو التغاضي عن مشاريع الطاقة المتجدّدة. وهو ما اعتبره السيّد شكري يعيش عضو المجلس التأسيسي خرقا للفصل 13 من الدستور وتجاوزا خطيرا للصلاحيات من قبل الوزير ورئيس الحكومة.

ودون الدخول في جرد تفصيليّ، لا تخلو أيّ من وزارات الدولة من تجاوزات ومخالفات واستخفاف باللوائح والقوانين، ولكنّ الأمر المستغرب هو أن تمرّ تلك التجاوزات والمخالفات مرور الكرام دون عقاب أو مسائلة ودون أن تجد من يتحمّل مسئوليتها، بل العكس هو ما يحصل من محاولات تغطية وذرّ رماد على العيون.

النصيب الأكبر من التجاوزات والانتهاكات كان من نصيب وزارة الداخليّة المسئولة عن حماية المواطنين وصيانة حقوقهم وصون أمنهم. فقد سجّلت حكومة التوافق التي حافظت على السيّد لطفي بن جدّو على رأس تلك الوزارة حتّى بعد استقالة رئيس الحكومة السابق عليّ العريّض، العديد من الإنتهاكات والتجاوزات القانونيّة في ما يخصّ مسالة حقوق الإنسان وتطبيق التعليمات واللوائح التي تنظّم علاقة الجهاز الأمنيّ مع المجتمع المدنيّ.

قبل تولّي مهدي جمعة رئاسة الحكومة في بداية سنة 2014، كان وزير الداخليّة شاهدا ومسئولا عن العديد من الإنتهاكات التي طالت المواطنين على أيدي قوّات الأمن في أكثر من مناسبة، كمحمد المفتي في قفصة وجرح 65 متظاهرا بالإضافة إلى العشرات من الإصابات في مختلف المدن التونسيّة والاعتداء على ثلاثة من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وهم نعمان الفهري، محمد علي نصري ومنجي الرحوي، وكذلك حادث سيارة وحدات التدخل التي قامت بدهس أحد الشبان المتظاهرين بساحة باردو. كما سجّلت تلك الفترة سجن مغنّي الراب “ولد الكانز” بتهمة الشتم والقذف ووفاة وليد دنقير أثناء التحقيقات بعد أن ادعت السلطات الأمنية مقتله إثر محاولته الهروب ولكن صور جثمانه أظهرت آثار التعذيب الجسدي بالإضافة إلى استمرار مظلمة سامي فرحات تلميذ الباكالوريا الذي ما يزال رهن الإعتقال دون محاكمة منذ أكثر من سنة بتهمة حرق مقرّ النهضة خلال المظاهرات في ولاية قفصة بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد.

ورغم سقوط حكومة عليّ العريّض، إلاّ أنّ السيّد لطفي بن جدّو حافظ على منصبه في الفريق “التوافقيّ” الجديد، دون أيّ مسائلة أو مراجعة لسياسة وزارته خلال الفترة الماضية.
وأمام هذا التساهل وغياب الرقابة استمرّت الممارسات العنيفة تجاه المواطنين وزادت حدّتها مع إعلان الحكومة الجديدة الحرب على الإرهاب وبداية مرحلة جديدة تداخلت فيها الأهداف لتُلقي المعركة الجديدة بضلالها على الحريّات الأساسيّة ولتطال الإنتهاكات أطرافا عديدة من مكوّنات المجتمع المدنيّ. فبالإضافة إلى ما طال المدوّنة لينا بن مهنّي من اعتداءات لفظيّة وجسديّة على أيدي أفراد من رجال الأمن أواخر شهر أوت المنقضي خلال تواجدها في جزيرة جربة، شهدت الفترة الأخيرة تطوّرا نوعيّا وكميّا للاعتداءات التي تعرّض لها المواطنون أو الناشطون الشبابيّون، لعلّ أبرزها ما يعرف بمحاكمات شباب الثورة التي بدأت في عهد حكومة الترويكا وتواصلت بنسق أسرع على صعيد الإيقافات بعد قدوم مهدي جمعة، لتطال ما يزيد عن 50 شابا كصفوان بوعزيز، شباب بوزيّان، محاكمات صفاقس و أجيم جربة و المنستير، رغم أنّ بعضهم من المنتفعين بالعفو التشريعيّ العام.

الإتهامات والحملة المسعورة ضد الحراك الاجتماعيّ والشبابيّ لم تتوقّف عند هذا الحدّ، فقد تمّ إيقاف كلّ من عزيز عمامي وصبري بن ملوكة بتهم كيديّة وملفّقة. كما أنّ مسلسل الإعتداءات الأمنية على الشباب لم يتوقّف عند هذا الحدّ، فقد تعرّض الشباب الذّي نظّم تحرّكا احتجاجيّا يوم السبت 17 ماي 2014 تحت شعار “لا لدولة البوليس” لمساندة عزيز عمامي وكلّ الشباب الذي تمّ إيقافه على خلفيّة مشاركته في الاحتجاجات منذ 17 ديسمبر 2010 ، إلى اعتداءات وضرب في شارع الحبيب بورقيبة، ورغم الطابع السلميّ للتحرّك، حيث اعتدى رجال الشرطة على كلّ من تواجد في الشارع دون تمييز بالإضافة إلى الإيقافات العشوائيّة والاعتداء الجسديّ الذي طال العديد من المشاركين في التظاهرة كمظفّر العبيدي ووائل نوّار وعشرات غيرهم. بالإضافة إلى الاعتداء على اعتصام قدماء اتحاد الطلبة للمطالبة بحقهم في التشغيل في ساحة القصبة.

وطالت الإعتداءات الجسديّة والمعنويّة الصحافيّين من قبل قوّات الأمن كما حدث في مناسبات عديدة مثل قيام أحد العناصر الأمنية بالزي المدني بالاعتداء بالعنف الجسدي على مصور جريدة “الوقائع” الخاصّة جلال الفرجاني أثناء تصويره لعملية إيقاف إحدى المدونات خلال وقفة احتجاجية للمطالبة بإطلاق سراح المدون “عزيز عمامي” أمام وزارة الداخلية أوائل شهر ماي الفارط.

كما قامت مجموعة من أعوان الشرطة بالاعتداء لفظيا و جسديا على جملة من الصحفيين الحاضرين في المحكمة الابتدائية بالقصرين أثناء تغطية وقفة احتجاجية على خلفية محاكمة عصام العمري شقيق محمد العمري أحد شهداء الثورة بتالة بتهمة إحراق مركز شرطة.

وقد عمد أعوان الأمن إلى الإعتداء بالركل والضرب الشديد على مصور جريدة “الوقائع” آزر منصري والصحفي ربيع غرسلي. وقد تمّ تهشيم آلة تصوير غرسلي ممّا استوجب نقله إلى المستشهفى الجهوي. كما تعرّضت الصحفيّة المستقلّة فائزة الماجري إلى الضرب والشتم من قبل أحد الأعوان الأمنيّين خلال نفس التغطية.

هذا التعامل اللامسئوول والفضّ من قبل الأمنيّين تجاه المجتمع المدنيّ والحقوق الأساسيّة للمواطنين تواصل تحت ذريعة محاربة الإرهاب، ليبلغ ذروته مع الحادثة الأخيرة التي شهدتها مدينة القصرين والمتمثّلة في مقتل الفتاتين أنس وأحلام الدلهومي بعد تعرّضهما لإطلاق نار مباشر في دلالة على مدى استسهال العنف في التعامل مع المواطنين.

وكالعادة، عميت العيون عن المسئوول وغابت الأسماء في زحمة التبريرات والفصول القانونيّة وصمت مطبق لغالبيّة مكوّنات المشهد السياسيّ.

المسئوليّة السياسيّة: ثقافة الإجبار

تُحدّد الطبيعة القانونية لعمل الوزير من خلال ممارسته لأعمال منصبه من خلال صفته وزيرا في الحكومة وتكون صلاحياته مستمدة من أحكام الدستور بأنه يشارك مع الوزراء الآخرين في الحكومة في رسم وتنفيذ السياسة العامة للحكومة، ويشرف على شئون وزارته.
فهو طبقا لهذا التعريف يتحمل مسئولية جماعية أو تضامنية مع زملائه الوزراء الآخرين في الحكومة باعتباره عضوا في مجلس الوزراء، ويناقش ما يعرض على المجلس من أمور ويصوت عليها.

كما يتحمل الوزير مسئولية فردية وسياسيّة عن تنفيذ السياسة العامة للحكومة من خلال إشرافه على وزارته، وباعتباره الرئيس الإداري الأعلى على قمة الهرم الإداري للوزارة، فهو يحدد الإجراءات اللازمة لتيسير وتسيير العمل في وزارته ويعين كبار موظفيها ويصدر اللوائح والقرارات اللازمة ويعد مشروعات الموازنة والإعتمادات الخاصة بها وقيمة المنح والحوافز. كما تكون للوزير سلطة رقابيّة (رقابة إدارية) وفقا لبعض القوانين التي تنظم بعض القطاعات في وزارته.

إذن فإنّ الواجب الأخلاقيّ والقانونيّ والسياسيّ يفرض على الوزير أن يتحمّل نتائج الهفوات والأخطاء الكبرى التي تشهدها وزارته خلال فترة مباشرته لمنصبه، طبعا هذا في الدول التي تحترم القوانين وتخضع لضوابط صارمة في العلاقة بين المسئولين من جهة ومؤسّسات الدولة المشرفين عليها من جهة أخرى. ولكنّ الواقع في تونس يعكس صورة مغايرة للمعمول به، إذ ورغم جرد التجاوزات الذّي سبق ذكرها لم يمتلك أيّ من وزراء الحكومة الشجاعة لتحمّل المسئوليّة الأخلاقيّة والسياسيّة للأخطاء التي ارتكبها معاونوه على اعتبار ترأسه إيّاهم، بل تضيع المسؤوليّات والمسائلة وسط سيل التبريرات والوعود والإجابة النمطيّة “سنقوم بفتح تحقيق”.

ربّما تعتبر وزارة الدفاع استثناءا في ما سبق ذكره وإن حافظ الوزير على منصبه، إذ بعد عمليّة الشعانبي التي راح ضحيّتها 15 جنديّا أواخر شهر رمضان الفارط، تقدّم رئيس الأركان باستقالته أو ربّما أجبر على تقديمها ليكون كبش فداء ومسكّنا لحالة الغضب التي استشرت إزاء ضعف أداء الجهاز الأمني والعسكريّ وليضع باستقالته حدّا لسيل الأسئلة والتكهّنات بدعم إعلاميّ عمد إلى قلب الصفحة بأسرع ما يمكنه.

لقد تحوّل إلى تقليد أن يتمسّك الوزير بمنصبه مهما تعدّدت أخطاؤه ومهما بلغت حدّة الانتقادات التي توجّه إليه، رغم ما يلوكه المسئولون يوميّا عن المناخ الديمقراطيّ الجديد وعلويّة القانون وأنّ لا أحد معصوم عن الخطأ أو مستثنى من المحاسبة، ولكنّ المسئوليّة السياسيّة للوزراء لا تُتّخذ بقرار فرديّ نابع عن قناعة شخصيّة وشجاعة في مواجهة الذات والشارع بل عن طريق الإجبار والاستئناس بدور كبش الفداء، حيث ومنذ العهد البروقيبي إلى يومنا هذا ما زال الوزير ورقة تحترق بأمر الحاكم وشمّاعة تسقط المسئولية عن الباقين.

هل عميت العيون أو تعامت عن الحكومة الجديدة؟

قبل فترة ليست بالبعيدة، بعد 14 جانفي 2011 إلى حدود شهر فيفري 2014، كانت الساحة الإعلامية والسياسيّة في تونس تعجّ بالبيانات والتصريحات والتحرّكات الإحتجاجيّة التي كانت تصطاد أي هفوة حكوميّة وتسعى لتحميل الجميع المسئوليّة وتملأ المنابر بالتحليلات والتنظير وإلقاء التهم، في معركة انخرطت فيها جميع الأحزاب دون استثناء حسب تموقعها من السلطة، بل وكانت المنظّمات المدنيّة والنقابيّة جزءا منها وفاعلا أساسيّا فيها، حتّى كان الحوار الوطني ونُصّب السيّد مهدي جمعة رئيسا للحكومة الانتقاليّة الجديدة.

فجأة، بدا أنّ البلاد تعيش فترة ذهبيّة وحالة من الرخاء والاستقرار الاقتصاديّ والأمنيّ، هذا ما عكسته على الأقلّ الصور المتواترة في وسائل الإعلام التي غيّرت اتجاه عدسات كاميراتها بعيدا عن الشارع والأسواق ومناطق الظلّ والفساد الإداريّ والقمع الأمنيّ لتركّز على جولات وزيرة السياحة ورحلات رئيس الحكومة في الخارج وزياراته “الفجئيّة” في الداخل و”أناقته” أثناء زيارة مأوى العجّز وتناوله اللحم المشوي مع سفير ألمانيا والفريكاسي في فرنسا ورحلته المتعبة في مترو الأنفاق في باريس وغيرها من حملات تلميع الصورة.

بل إنّ حوادث كبيرة كخروج قطار عن السكّة ومقتل عدد من المواطنين، أو انفجار لغم في جبل الشعانبي أو التنكيل بمواطنين وصحافيّين أثناء وقفة احتجاجيّة صارت أخبارا لا تستحقّ أكثر من جملة في الشريط المكتوب أسفل الشاشة، هذا إن كانت محظوظة. في ما تظلّ مسائل أخرى كمصير الثروات الباطنيّة والمديونيّة والخيارات الاقتصاديّة والتدخّل الأجنبيّ في البلاد أمنيّا واقتصاديّا مواضيع مسكوتا عنها وخارج مشاغل هيئات التحرير.

أمّا الأحزاب السياسيّة والمنظّمات المدنيّة يبدو أنّ مشاركتها في الحوار الوطنيّ وتزكيتها لمهدي جمعة قد أعمتها طوعا عن أخطاءه وأخطاء وزراءه، ليخيّم فجأة الصمت على المشهد السياسيّ بعد أن كانت المزايدات واحتراف تصيّد الأخطاء السمة الرئيسيّة للساحة السياسيّة والشغل الشاغل لمكوّناتها.

ولا يغيب عن أحد أن الإنشغال بالإستحقاق الإنتخابيّ والرغبة في تأمين وصول “آمن وهادئ” لموعد الإنتخابات قد دفع بالجميع إلى التغاضي عن ممارسات الحكومة الجديدة وتجاوزاتها، فأطماع الكراسي أباحت التنصّل من المسئوليّة الرقابيّة والأخلاقيّة والسياسيّة لمكوّنات المشهد السياسيّ والنقابيّ تجاه من يتولّون اليوم تسيير الدولة، فما كان يستدعي المعارك اليوميّة بالأمس صار اليوم أمرا عاديّا، فخفتت نبرة التنديد بالقروض، وتقلّص الاهتمام بتقصير الوزارات في واجباتها تجاه المواطنين، وتغيّرت قراءة المؤشّرات الإقتصاديّة وغابت السيناريوهات الكارثيّة والتحليلات المتشائمة و حتى التنديدات باستغالال الغاز الصخري.

لم تكن فترة حكم الترويكا يوما بأفضل من الحاليّة، ولم تكن أخطاؤها وانتهاكاتها بأقلّ ممّا تمارسه حكومة “التوافق الوطنيّ”، ولكنّ التنصّل من المسئوليّة وغياب التنديد والصمت المريب لأغلب مكوّنات المجتمع المدنيّ تجاه ما تشهده هذه المرحلة يثير الريبة حول أهداف هذا التعامي وارتداداته على الصعيد السياسيّ والإقتصاديّ وتطرح تساؤلات كثيرة حول طبيعة الإتفاقات والمساومات التي شهدتها كواليس الحوار الوطنيّ الذي تحوّل من اجتماع لإنقاذ تونس إلى إجماع حول كيفيّة اقتسام البلاد وترضية الأطراف الداخليّة وعرّابيها في الخارج.