فنحن القادرين على التذكٌر قادرون علي التحرٌر
محمود درويش
قد يدفع الجوع الفرد ،أمام ضغط المعيشة وضرورة توفير الحدّ الأدنى من الأمن والخبز، إلى تقديم التنازلات وإلى التغاضي عمّا يعتبره البعض ثانويّا، كالكرامة والحريّة واحترام حقوق الإنسان وعلويّة القانون.
إنّ المقارنة بين العهد السابق في ظلّ الرئيس السابق بن عليّ ومرحلة ما بعد 14 جانفي يشوبه الكثير من الإختلاف على المستوى الإقتصاديّ، خصوصا إذا ما تعلّق الأمر بالحديث عن ثروات الحاشية الحاكمة وعمليات الابتزاز ووضع اليد على مقدّرات البلاد، فالوضع الإقتصاديّ اليوم لا يقلّ سوءا عمّا مضى، والضغوط المعيشيّة تزداد يوما بعد يوم، وهو ما يدفع الكثير من التونسيّين إلى الكفر بانتفاضة 17 ديسمبر وغضّ الطرف عن انتهاكات النظام السابق، بل والحنين إلى عهده ما داموا قادرين على توفير الحدّ الأدنى من الضروريات المعيشيّة.
ولكنّ الوجه البشع للنظام السابق كان جليّا أكثر من الناحية الأمنية والحقوقيّة، حيث تفنّن بمعيّة الجهاز الأمني والحزبيّ في قمع الحريات الفرديّة والسياسيّة والتنكيل بالمغرّدين خارج سرب الممجّدين للعهد الجديد.
في هذا الجزء الثاني من الملفّ الذّي تتناول فيه نواة قضيّة التحسّر على بن عليّ، سنستعرض جزءا من الجرائم والإنتهاكات التي ارتكبها النظام السابق في حقّ المواطنين التونسيّين وكيف أحكم التجمّع الدستوري الديمقراطي قبضته على البلاد واستطاع تكميم معظم الأفواه طيلة 23 سنة.
وفي نفس الوقت، سنرصد الإنتهاكات المتواصلة التي مازالت حتّى اليوم مستمرّة في حقّ المجتمع المدني رغم رحيل بن عليّ منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات طارحة أكثر من تساؤل حول جديّة التغيير الذي شهدته البلاد على مستوى تعامل الأجهزة الأمنية مع الوضع السياسيّ الجديد.
شعب تحت الحصار
منذ ثمانينات القرن الماضي، وبعد أن بدأت قبضة الرجل الأوّل في تونس الحبيب بورقيبة تتراخى بحكم السنّ واهتراء السلطة ونشوء مراكز قوى داخل قصر قرطاج، ازدادت صرامة الأجهزة الأمنية وممارساتها القمعيّة تجاه المعارضين والتحركات الإحتجاجيّة ضدّ الوضع الإقتصاديّ المتأزّم واستشراء الفساد في كلّ أجهزة الدولة، إلى حين حسم الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ مسألة الحكم وتولّى في السابع من نوفمبر 1987 قيادة البلاد بوعود اقتصاديّة وسياسيّة وحقوقيّة عبّر عنها في بيانه الشهير يوم توليه مقاليد السلطة.
ولكن هذا الرئيس الجديد حينها ما لبث بعد فترة فرز للحلفاء والأعداء المحتملين وتثبيت لموقعه الجديد أن كشّر عن أنيابه وأطلق العنان لواحدة من أكبر عمليات التصفية السياسيّة لخصومه والتي استمرّت لعدّة سنوات، ليعيش أغلب النّاس من بعدها سنوات من الخضوع الإضطراريّ واإانقماع الناتج عن الترهيب الممنهج الذي مارسه النظام السابق ضد معارضيه وضد أيّ صوت يعلو فوق صوته أو رؤية تتعارض ورؤيته.
طوال سنوات، لم تتوقّف المنظّمات الحقوقيّة الدوليّة والنشطاء في الداخل والخارج عن انتقاد نظام بن عليّ على المستوى الحقوقيّ والسياسيّ، حيث كان حكمه يعتبر واحدا من أعتى الأنظمة البوليسيّة وأشدّها شراسة في قمع المناوئين. ورغم ذلك ظلّ بن عليّ واحدا من المرحّبين به في العواصم العالميّة الكبرى رغم علمها بممارساته في الداخل، ولكنّ الدعم الدولي له استمرّ باستمرار المصالح المشتركة. أمّا في الداخل، فقد استطاع الرئيس السابق أن يستمرّ في الحكم طيلة 23 سنة فرض خلالها الإنصياع المطلق لسلطته عدى قلّة تحمّلت طوال ما يتجاوز العقدين شتّى أساليب العقاب والتنكيل.
استعمل النظام لتثبيت بقاءه كلتا الجهازين الأمني والحزبيّ في مراقبة المجتمع وتشديد الحصار على الأحزاب السياسيّة والنشطاء الحقوقيّين والعمل النقابيّ وتفنّن في ممارسة القمع الماديّ والمعنويّ لإجبار المجتمع المدني على التسليم المطلق لحكمه.
وسنستعرض هنا أبرز الأساليب التي اعتمدها بن عليّ لترسيخ حكمه ومعاقبة معارضيه:
– المراقبة الإدارية: تعتبر المراقبة الإدارية احد أهم وسائل المحاصرة السياسيّة، فقد تعرّض لها منذ عقود رجال معركة التحرّر الوطنيّ من قبل سلطات الإستعمار، وتمّ تطبيقها على المشاركين في المحاولة الإنقلابيّة لسنة 1962، عددا من اليساريّين والإسلاميين والقوميّين طيلة سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وبعد وصول بن عليّ إلى الحكم لم يكن هذا الأخير استثناءا، إذ عمد بدوره إلى أسلوب المراقبة الإدارية عقب المحاكمات السياسيّة لأعداد كبيرة من الإسلاميين واليساريّين في التسعينات، ثم ليتمّ تطبيقها عقب وضع قانون الإرهاب سنة 2003 وليخضع لها مئات الشبّان التونسيّين حتّى ممن لم يتورّطوا في أي أعمال عنف ضدّ النظام القائم حينها.
ورغم الطابع “المسالم” لهذه العقوبة التي يبدو ظاهرها مرتبطا بتشديد الرقابة وحصر المجال الزمني والمكاني لتحرّكات من هم في موضع اشتباه، (رغم عدم جواز منع أيّ مواطن من حقّه الدستوري في ممارسة النشاط السياسيّ والنقابيّ وتحريم احتجازه أو تعطيل تنقّله أو إجباره على الإقامة القسريّة في مكان محدّد، وهو ما يبطل هذا الإجراء من أساسه) إلاّ أنّ ممارسات الجهات الأمنيّة خلال تنفيذ هذا الإجراء كانت تحمل الكثير من الإهانة والإذلال للمواطنين في سعي دائم لكسر إرادتهم وثنيهم عن اختياراتهم ومواجهتهم للنظام.
وقد سجّل التاريخ مدى قسوة هذا الإجراء في حادثة انتحار عبد الرزاق بربرية من مدينة ينزرت الذّي تعرّض خلال فترة المراقبة الإدارية للإهانة والضرب والشتائم من قبل أعوان الأمن ممّا دفعه إلى الإنتحار شنقا في 12 نوفمبر 1997، بالإضافة إلى الموظف بالشركة الجهوية للتوريد والتصدير ببنزرت محمد علي فداي الذي حوكم سنة 1994 بتهمة الإنتماء إلى جمعية غير مرخصة ونال عقوبة بـسنتين وستة أشهر، وقد أجبر عقب إطلاق سراحه على الخضوع للمراقبة الإدارية ممّا حال ذلك دون إجراء الفحوص والعلاجات اللازمة للمرض العصبي الذي صار يعاني منه، بالإضافة إلى أشكال الإهانة والإذلال التي تعرّض لها خلال تنفيذه لهذا الإجراء وهو ما دفعه في ديسمبر إلى إلقاء نفسه من أعلى سور المدينة ليقع على رصيف المرفأ ويفارق الحياة على الفور.
– الاختطاف والاعتداء بالعنف ومنع الإجتماعات: كان نظام بن عليّ يعمد عبر الأعوان الأمنيّين أو عبر تأجير المنحرفين إلى اختطاف المعارضين السياسيّين والتنكيل بهم والإعتداء عليهم بالضرب وتركهم في الشارع مثخنين جراء العنف المسلّط عليهم. وقد تعرّض العديد من النشطاء السياسيّين والحقوقيّين إلى مثل هذه الممارسات كالأستاذ عبد الرؤوف العيّادي والأستاذة راضية النصراوي وحمّه الهمامي وخالد الكريشي وزهير مخلوف وعلي الوسلاتي وسهام بن سدرين وعشرات غيرهم كانوا عرضة للإهانة والضرب المبرح في الشارع ردّا على آرائهم المعارضة للنظام. كما سجّلت تقارير منظّمات حقوق الإنسان عديد الحالات التي تعرّض لها مقرّ الحزب الديمقراطي التقدّمي من محاصرة وترهيب واعتداء على منخرطيه.
– المحاكمات السياسيّة وتلفيق القضايا وتشويه السمعة: فرض النظام السابق سيطرته على القضاء وسخّره لخدمة انتهاكاته على المستوى الإقتصاديّ والسياسيّ. وقد كانت الأجهزة الأمنية تعمد إلى تلفيق تهم جنائيّة للمعارضين السياسيّين والنشطاء الحقوقيّين للإلتفاف على القانون وتعريضهم للسجن والمراقبة على خلفية نشاطاتهم بطريقة غير مباشرة. وهو ما حصل مع العديد من الأسماء كالرئيس الحاليّ للبلاد محمد منصف المرزوقي الذي اتهم بالثلب أو حمه الهمامي الذي حكم عليه بالسجن 8 سنوات بتهمة نشر أخبار زائفة أو القاضي مختار اليحياوي أو السيّد علي الوسلاتي الذي حوكم في أفريل 2008 بتهمة القذف العلني والإخلال بهدوء المساجد، والقائمة تطول.
– الترهيب والاعتداء على الممتلكات الخاصّة: علاوة على الاعتداءات الجسديّة والمعنويّة، مارس النظام السابق أساليب قذرة لترهيب المناوئين له من خلال الإعتداء على أملاكهم الخاصّة كما حصل مع سيّارة المحامي عبد الرؤوف العيّادي والتي تمّ تعطيلها عبر سكب مادة كيميائيّة قابلة لإانفجار في خزّان الوقود وتحطيم بلور سيارة الناشط الحقوقي خالد الكريشي، أو من خلال اقتحام منازل المعارضين وتهشيم الأثاث وبعثرته وهو ما تعرّض له السيّد الأسعد الجوهري، بالإضافة إلى الهجمات المتكرّرة على مكاتب المحامين المعارضين للنظام ومصادرة أو إتلاف محتوياتها كما حدث مع السيّد العياشي الهمامي وغيره.
– التعذيب خلال الإعتقال والتحقيق: يعتبر العنف والإعتداء الجسدي أحد أساسيات عمل الأجهزة الأمنية خلال عهد الرئيس السابق بن عليّ، وتتطوّر درجة العنف خلال التحقيق حسب طبيعة الطرف الخاضع للإستجواب وأهميّة المعلومات المطلوبة، وأحيانا لمجرّد الترهيب وإعطاء العبرة لمختلف مكوّنات المجتمع المدني التي كانت تناهض سياسة الحكومة. وقد شهدت حقبة الرئيس السابق أصنافا شتّى من التعذيب الجسدي والمعنوي لآلاف من المعتقلين على خلفيّة آراءهم السياسيّة.
وحسب تقارير لمنظّمات حقوق الإنسان وشهود عيان تعرّضوا للتنكيل والتعذيب في سجون الرئيس السابق، فقد تفنّن السجّانون في ابتداع أساليب تعمّق المعاناة النفسيّة والجسديّة للمحتجزين، من قبيل المفاحشة والإغتصاب والضرب المبرح والكيّ والتركيز على الأعضاء التناسليّة حتّى التهديد باستهداف الأهل.
وقد توفيّ جرّاء التعذيب في سجون بن عليّ ما يزيد عن 50 معتقلا سياسيّا نذكر منهم عبد الرؤوف العريبي (قتل يوم 11 ماي 1991 في دهاليز وزارة الداخلية) وفتحي الخياري (قتل يوم 5 أوت 1991 في بوشوشة) وفيصل بركات (قتل يوم 8 أكتوبر 1991 بمركز الحرس الوطني بنابل ثم ألقيت جثته في الطريق العام بأحواز مسقط رأسه بمنزل بوزلفة للتضليل) ورشيد الشماخي (قتل يوم 24 أكتوبر 1991 بمركز الحرس الوطني بنابل) وعامر دقاش (قتل 11 جوان 1991 بدهاليز وزارة الداخلية) وعبد العزيز المحواشي (قتل يوم 30 أفريل 1991 بدهاليز وزارة الداخلية) وعبد الواحد عبيدلي (قتل يوم 30 جوان 1991 بمنطقة الأمن بسوسة) وفتحي الوحيشي (قتل يوم 26 نوفمبر 1996 بقابس) وكمال المطماطي وعشرات غيرهم.
– المنع من الدراسة: لم تكن الشخصيات الحقوقيّة والسياسيّة وحدها في مواجهة النظام السابق، حيث خاض الإتحاد العام لطلبة تونس نضالا مريرا وتحمّل منخرطوه نصيبا وافرا من التنكيل والقمع والمحاصرة والتعذيب، وكان من بين أساليب الترهيب والعقاب هو المنع من الدراسة ورفض تسجيل الطالب الذي يشتبه في ممارسته لنشاط نقابيّ بالإضافة إلى حرمانه من المبيت الجامعيّ والملاحقة الأمنية وتعطيل اجتيازه للامتحانات عبر احتجازه خلال تلك الفترة لضرب معنوياته وترهيب البقيّة، بالإضافة للمضايقات التي كان يمارسها الأمن الجامعي ضد اللواتي اخترن لبس الحجاب عبر المنع من دخول الجامعة والإعتقال أحيانا.
وقد عرفت الساحة الطلابيّة العديد من الأسماء التي وقفت في وجه النظام وتحمّلت قمعه وملاحقته من أمثال أيّوب عمارة ومحمد السوداني وأحمد ساسي وعصام السلاّمي ومئات المناضلين الشباب الذّين ظلّ بعضهم حتّى 14 جانفي قابعين في سجون النظام.
– المحاصرة الإقتصاديّة: لم تكتفي الأجهزة الأمنيّة بالمحاصرة الأمنيّة بل تعدّتها لقطع أرزاق المناوئين للنظام عبر ما كان يُعرف بالمحاصرة الإقتصاديّة التي عانى منها العديد من الشخصيات السياسيّة والحقوقيّة وحتّى من المواطنين العاديّين الذي كان يُشتبه في انتماءهم لأحد التنظيمات السياسيّة عبر هدم الدكاكين أو سحب الرخص أو الطرد من الوظيفة العموميّة وترهيب أصحاب المشاريع الخاصّة وتحذيرهم من توظيف المشتبه. وقد أحصت الجمعية الدولية بمساندة المساجين السياسيّين سنة 2010 عددا من تلك الانتهاكات التي تدخل في إطار سياسة التجويع.
– الرقابة ومحاصرة المجال الإفتراضي: عملت الأجهزة الأمنيّة على محاصرة الفضاء الإفتراضي في شبكة الانترنت وتشديد الرقابة على المدوّنات وصفحات الفايسبوك والمواقع التابعة للنشطاء السياسيّين والحقوقيّين والعمل على اختراقها وقرصنتها وإغلاقها في إطار إستراتيجية تقوم على قطع الجسور التي يتواصل من خلالها التونسيون المقيمون داخل البلاد من السياسيين المستقلين ونشطاء لأحزاب المعارضة التونسية ومن الكتـّاب والمثقفين والصحافيين والمدونين والحقوقيين والفنانين والنقاد والإعلاميين مع نظرائهم التونسيين المقيمين خارج البلاد من بين المهاجرين التونسيين بأجيالهم المتعاقبة والمهجّرين واللاجئين السياسيين.
.كما تقوم شرطة الأنترنت بإرسال رسائل تهديد إلى صناديق البريد الإلكتروني للنشطاء بلغة نابية ووضيعة (الأستاذ عبد الوهاب معطر)، أو استدعاءهم لدى مراكز الأمن لتحذيرهم من مغبة الإتصال بالخارج عبر “السكايب” (كما حصل مع عبد الله الزواري).
وتعمد شرطة الأنترنت إلى إعداد تقارير للإعلام يما يجري في المجال الإفتراضي من “مخالفات”، ومن ثمّ رفع قضايا ضدّ من يتمّ رصد نشاطه على الشبكة كما حصل مع سجناء الأنترنت من شباب جرجيس في سنة 2004.
ومن ضمن المواقع والمدوّنات والبريد الالكترونيّ الذّي تعرّض للقرصنة والاختراق نذكر على سبيل المثال لا الحصر، قرصنة و إتلاف محتوى مدونة سليم بوخذير وقرصنة مدونة مراقبة تونس لمختار اليحياوي يوم 10 سبتمبر 2007 وموقع المؤتمر من أجل الجمهورية وموقع الحزب الديمقراطي التقدمي وقرصنة مدونة صدربعل (Astrubal) ومدونة سامي بن غربية سنة 2008 وقرصنة المدونة الجماعية “نواة” وعشرات المواقع والمدوّنات الأخرى التابعة لمختلف النشطاء السياسيّين والحقوقيّين والنقابيّين.
– سياسة العصا الغليظة في مواجهة الإحتجاجات والتحرّكات الشعبيّة: فترة حكم الرئيس السابق لم تكن بالهدوء الذي قد يتصوّره الكثيرون، كما أنّ المجتمع المدني وعموم النّاس لم تسلّم بصفة نهائيّة لتسلّط النظام وظلمه، إذ شهدت تونس خلال العقدين الماضيين انتفاضات شعبيّة هزّت النظام وأجهزته الحزبيّة والأمنيّة وبثّت الرعب في أركانه وهو ما يتجلّى من خلال ازدياد عنفه وشراسته كلّما تمكّن الخوف منه أكثر فأكثر.
البداية كانت مع ولاية سليانة أوائل التسعينات احتجاجا على تردّي الوضع المعيشيّ والتنموي في الجهة لتتواصل التحرّكات الإحتجاجيّة مع كلّ مناسبة محليّة أو دوليّة، فالتظاهر ضد حرب الخليج الأولى ودعم الإنتفاضة الفلسطينيّة سنة 2002 ومسيرات الغضب ضدّ الغزو الأمريكيّ للعراق كانت كلّها لا تخلو من شعارات معادية لنظام رفض حتّى السماح بتنفيس الغضب.
كما شهدت تونس تحرّكات طلاّبيّة ونقابيّة كبرى خلال قمّة المعلومات سنة 2005 لتتوّج بانتفاضة الحوض المنجميّ سنة 2008 والذّي كان بمثابة الإنذار الأخير لنظام استنفذ كلّ وسائل الترهيب في وجه شعب لم يبقى لديه ما يخسره. وقد اعتمدت الأجهزة الأمنيّة لمواجهة هذه التحرّكات على القمع العنيف لتفريق المحتجّين باستعمال الغاز والضرب والرصاص الحيّ في أحيان كثيرة، بالإضافة إلى عمليات الإعتقال الليليّة التي تعقب تلك التحرّكات وما يليها من تعذيب وتنكيل وإخضاع لشتّى الممارسات التي وردت سابقا.
الحزب والإعلام لتشديد الرقابة وتعمية العيون
لم يكتفي الرئيس السابق بالإعتماد على أجهزته الأمنية لترهيب المواطنين وترسيخ حكمه، بل سعى إلى بثّ العيون والآذان في كلّ ركن من تونس حتّى تتمّ معاقبة كلّ من يجرؤ على التذمّر أو الشكوى معتمدا في ذلك على منخرطي حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي المنحلّ والذّي استطاع نفوذه أن يتجاوز نفوذ الدولة بعد اختزالها فيه وسخّر موارد الدولة لخدمته عبر استغلال المؤسّسات العموميّة وتجهيزاتها وتسخيرها لاحتفالاته أو التوظيف الإنتقائيّ في الوظيفة العموميّة وإجبار الإطارات و الموظفين على الإنخراط في الحزب أو التعرّض للمضايقات المهنيّة. ممّا خلق مناخا اجتماعيّا قائما على الصمت والخوف والشكّ في الآخر وساهم في ترسيخ ثقافة التسلّق والإنتهازيّة والإنقماع.
الإعلام الذيّ تمّ تدجينه لخدمة الرئاسة والرئيس، لعب دورا كبيرا في تلميع صورة النظام في الخارج عبر تأجير الأقلام المرتزقة عبر وكالة الإتصال الخارجي وصرف المكافئات السخيّة على كلّ من يمدح الرئيس ويثني على سياساته “الحكيمة”. أمّا في الداخل فالوضع الإعلامي لم يكن أقلّ سوءا حيث سيطرة الدولة على الصحف والإعلام المرئيّ والمسموع عبر حصص الإشهار وتنصيب رؤساء التحرير الموالين للنظام.
أما ما ظهر من الإعلام الخاصّ خلال السنوات الأخيرة من عهد بن عليّ فلم يكن دوره سوى خوض النقاشات الجانبيّة والترويج لإعلام ردئ يعتمد السطحيّة والإسفاف، وحتّى الهامش الضيّق من النقد في بعض البرامج الحواريّة فلم يتجاوز مجاليّ الرياضة والفنّ وتحميل صغار “المسؤولين” مسئوليّة المشاكل التي يعاني منها القطاع دون المساس بالرئيس أو التعرّض لممارساته وسياساته.
استغلّ الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ كلّ ما أتيح من إمكانيات تكنولوجيّة وبشريّة وماليّة لترسيخ جمهوريّة الخوف ولفرض سلطة قامت على التنكيل والترهيب وأحاديّة الخطاب والتخطيط والصورة، في ظلّ صمت دوليّ متواطئ وفي محيط عربيّ لم تكن تونس فيه استثناءا على مستوى التنافس في الحطّ من كرامة المواطن وازدراء قيم الحريّة والتعدديّة.
أمّا الشعب فقد انقسم إلى ثلاث فئات؛ فئت رأت في النظام القائم أرضا خصبة لممارسة شتّى أنواع الفساد والتسلّط واستغلال النفوذ واختارت الإصطفاف مع بن عليّ والانخراط في جهازه الحزبيّ والرقابيّ والتسلّق عبره إلى أعلى السلمّ المهنيّ والاجتماعيّ، وفئة اختارت التسليم وطأطأة الرؤوس والصمت إزاء المظالم التي لم تخفى على أحد، بل عمد النظام إلى التغاضي عن التسريبات المتعلّقة بانتهاكات حقوق الإنسان بغية بثّ الرعب في نفوس النّاس وترهيب كلّ من تسوّل له نفسه رفع صوته أو قلمه في وجه السلطة، وفئة ثالثة اختارت المواجهة رغم الحصار وقلّة الإمكانيات وغياب الدعم الشعبيّ الواضح وتحمّلت طيلة أكثر من عقدين غضب النظام وعقوباته وكانت في طليعة من اصطفّوا يوم 14 جانفي منذ ثلاث سنوات خلت ليطالبوا بوضع حدّ لنظام أطعم النّاس خبزا بطعم العلقم وانتزع منهم كرامتهم وحرّيتهم مقابل فتات ما نهبه طيلة عقود من اقتصاد البلد وخيراته.
واليوم، بعد أن هدأت نسبيّا موجة الغضب الشعبيّ وبعد أن تتالت خيبات الأمل لدى عامة النّاس من التجارب السياسيّة التي طُرحت بعد 14 جانفي، وجدت الأصوات التي كانت منذ ثلاث سنوات تهمس بالتحسّر على نظام بن عليّ الفرصة لتعلوا ولتقيم المقارنات بين ما يرونه “رخاء” الأمس وشظف الحاضر.
يتبع…
iThere are no comments
Add yours