صادق البرلمان الأوروبي يوم 14 سبتمبر 2016، على مجموعة من “القرارات المتعلّقة بعلاقات الاتحاد الأوروبي مع تونس في المحيط الإقليمي الراهن”، والتي تفرّعت إلى جوانب عديدة من أوجه التنسيق والتعاون والمساعدات على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي إضافة إلى البعد الأمني والعسكري .

اجتماع البرلمان الأوروبي الأخير، و”مباركته” تمتين التعاون الأمني والعسكري المشترك، يأتي في سياق تطوّر العلاقات الأمنية والعسكرية بين الطرفين، خصوصا بعد سنة 2011 مع الانفلات الأمني في ليبيا وتعاظم الخطر الإرهابي في تونس ودول الاتحاد الأوروبي، كما يتوافق مع ما كشفته نواة سابقا حول إحداث مركز استخباراتي لحلف شمال الأطلسي على الأراضي التونسية، والذّي حاول هذا الأخير تجميله تحت عنوان التدريب والدعم اللوجستي.

حلف شمال الأطلسي والبحث عن نقطة ارتكاز في جنوب المتوسّط

“مكافحة الهجرة غير الشرعية” التي سجّلت سنة 2015 عبور أكثر من 930 ألفا مهاجر نحو الاتحاد الأوروبي، كان المنطلق المعلن لتكثيف التعاون الأمني والعسكري مع دول جنوب المتوسّط، التي كانت المصدر الرئيسي لموجات كبيرة من الهجرة السريّة نحو ضفاف جنوب أوروبا خصوصا منذ سنة 2011 والانفلات الأمني في تونس واحتدام الحرب الأهلية في ليبيا. وتعكس وثيقة القرارات الصادرة عن اجتماع البرلمان الأوروبي حجم الاهتمام بالوضع الأمني في تونس وجارتها الشرقية، خصوصا مع المعارك الأخيرة في الهلال النفطي الليبي وما أثاره من استنفار دولي لما يعتبر تهديدا حقيقيا ومباشرا لمصالحه. ورغم تناول البرلمان الأوروبي لشأن الاقتصادي والسياسي، إلا أنّ تعاطيه مع الأوضاع الأمنية والعسكرية يكشف في جانب منه السياسة العامة للاتحاد الأوروبي القائمة على تطوير التعاون الأمني الاستخباراتي والعسكري مع الدولة التونسيّة واعتمادها نقطة ارتكاز وكشف لمحيطها الإقليمي. القرار الصادر عن الاجتماع المذكور، يؤكّد ما سبق وأن تناولته نواة في مقالات سابقة حول تعاظم الحضور الأمني والعسكري الأجنبي وانخراط تونس في السياسة الأمنية والعسكرية لحلف شمال الأطلسي.

⬇︎ PDF

كشفت وثيقة ويكيلكس التي نشرتها نواة في شهر فيفري الفارط، المشروع الأوروبي “صوفيا” لتكثيف التواجد الأوروبي في البحر الأبيض المتوسّط، تحت عنوان مكافحة الهجرة السريّة. مشروع لا يكتفي بوضع آليات لوقف الموجات البشرية الهاربة من جحيم الحرب في ليبيا أو سوريا أو من ارتدادات الأزمة الاقتصادية في تونس، بل يشرّع للتدخّل العسكري على الأراضي الليبيّة إذا ما اقتضت ضرورات الأمن الأوروبي ومصالحه ذلك.

مرّة أخرى، تنشر نواة مقالا في شهر جويلية الفارط يوضّح تطوّر التعاون الأمني بين تونس وحلف شمال الأطلسي إلى حدود تركيز مركز استخباراتي للحلف في الأراضي التونسيّة. وقد أثار هذا المقال ردّة فعل سريعة من وزارة الدفاع التونسية وحلف شمال الأطلسي، ليعلن كلاهما أنّ هذا المركز “يأتي في إطار الهيكلة الجديدة لمنظومة الاستعلامات العسكرية، وتماشيا مع قرار رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي في العيد الستّين لانبعاث الجيش الوطني التونسي، إحداث مدرسة متخصصة في الاستخبارات والأمن العسكري، إضافة إلى وكالة للاستخبارات والأمن والدفاع”. أمّا دور حلف شمال الأطلسي بحسب بيان الطرفين فيقتصر على “تقديم خبراته وتكوين الأمنيين والعسكريّين في هذا المجال، وتمكين القوات التونسية من التعامل مع البرامج والتقنيات والمعايير المستعملة في جمع وتحليل ونشر المعلومات في مجال مقاومة الإرهاب”. وقد تزامن كشف هذه المعطيات مع الإعلان عن قرب بدأ عملية بحرية متعددة الأهداف في البحر الأبيض المتوسط تحمل اسم “الحارس البحري” بهدف ضمان الأمن في البحر المتوسط وجمع المعلومات عن الوضع السائد هناك، ومكافحة الإرهاب وتعزيز القدرات والإمكانيات المادية واللوجستية لمواجهته.

خطّة صوفيا الخاصة بالاتحاد الأوروبي، ومركز دمج المعلومات الاستخباراتية الذي أعلن الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتينبرغ عن تواجده منذ سنة 2014، يأتي في سياق عام من تكثيف التواجد العسكري لدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدّة الأمريكية تحت مظلّة حلف الشمال الأطلسيّ وبعنوان مكافحة الهجرة غير الشرعية والتهريب ومقاومة الإرهاب. أما الدور التونسي فيبدو محوريا في إنجاح عسكرة المتوسّط وتوفير نقطة ارتكاز لقوات “الناتو” في ظلّ أوضاع إقليمية تهيأ لمزيد من الجولات العسكرية شرق المتوسّط وجنوبه.

التعاون والتحالف مع القوى الإقليمية: تجارة المواقف

التعاون الأمني والاستخباراتي بين الأجهزة التونسية ونظيراتها الأوروبية والأمريكية، لم يكن وليد التغيير السياسي بعد سنة 2011، بل يعود لعقود مضت، نتيجة الخيارات السياسية للنظام التونسي إبان الحرب الباردة، وليتجلّى أكثر عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على الولايات المتحدّة الأمريكية وإعلان الحرب على التنظيمات الجهادية في أفغانستان وخارجها.

لكنّ التغيير البارز في تاريخ هذه العلاقات السريّة أو المسكوت عنها، تمظهر في الاتفاقات والمعاهدات المعلنة التي انخرطت فيها الحكومات التونسية المتعاقبة بعد سنة 2011 والتي كسرت قواعد عمل الديبلوماسية التونسية المعهودة.

الانخراط في تحالفات سياسية وعسكرية بدأ منذ الحملة العسكرية لحلف الناتو على ليبيا إبان الحرب واشتداد وطأة المعارك لإسقاط نظام معمّر القذافي عبر فتح الحدود الجنوبيّة سنة 2011 لتدفّق المقاتلين واستقبال الجرحى منهم أو كما أكّدت بعض المصادر بأنّ غرفة العمليات الأساسيّة كانت في جزيرة جربة، مرورا إلى فتح المجال الجويّ اثناء الضربات الجويّة “للتحالف الدوليّ بقيادة فرنسا والولايات المتحدة الامريكية” وبتمويل مباشر من السعودية وقطر والإمارات.

الاصطفاف التونسي لم يتوقف عند هذا الحدّ، بل تواصل الاندفاع السياسي للانخراط في لعبة التحالفات، طمعا في المساعدات الماديّة ليترجم في التعاطي الرسمي مع الأزمة السوريّة والتماهي ا الكامل مع التوجه القطريّ والتركي خلال قمتيّ ّبغداد والدوحة سنتي 2012 و2013 إبان حكم الترويكا وحركة النهضة بالأساس، والاعتراف التام بالمعارضة السورية وانخراط تونس في تصدير المرتزقة إلى سوريا عبر تسهيل العبور والتغاضي عن حملات الشحن والتحشيد في المساجد ووسائل الاعلام ضدّ النظام السوري. ومع تغيير الحكومات استمر نهج الانخراط في التحالفات السياسية والعسكرية بالانضمام إلى التحالف “الإسلامي” ضد الإرهاب الذّي تم الإعلان عنه في الرياض منتصف شهر ديسمبر الماضي كخطوة سعوديّة لخلق حلف مواز لما تعتبره التحالف الشيعي بين إيران والعراق وسوريا ولبنان ممثّلا بحزب اللّه. الحكومة التونسية اختارت البحث عن حلّ للمأزق الاقتصاديّ بالاستسلام للإغراءات الماليّة السعوديّة متجاهلة جميع التناقضات والارتدادات السياسية والاستراتيجية لتكون جزءا من حلف هلاميّ صنعه البترودولار.

تطوّر “التعاون الأمني والعسكريّ”، لم يتوقّف عند تبادل المعلومات أو إعلان المواقف، لتكشف نواة في شهر مارس الفارط عن فحوى الاتفاق بين الحكومة التونسيّة ونظيرتها الأمريكيّة بخصوص “أفراد القوات المسلحة الأمريكية المتواجدين بصفة مؤقتة داخل الإقليم التونسي وأفراد القوات المسلّحة التّونسية المتواجدين بصفة مؤقتة داخل إقليم الولايات المتّحدة الأمريكية”، إضافة إلى “مذكرة بخصوص مشروع الاتفاق المتعلق بالوضعية القانونية للقوات الأمريكية خلال تواجدها بتونس” و أهمّ المسائل التي تناولها الحوار الثنائيّ بين رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري خلال أعمال الدورة الثانية من الحوار الاستراتيجي التونسي الأمريكي في نوفمبر 2015.

وتكشف هذه الوثائق طبيعة التسهيلات أثناء التنقّل والتصاريح والأداءات ونقل المعدّات والأفراد، وكيفية صرف التعويضات في هذه حالة تسبّب أفراد البلد المُرسِل في ضرر للطرف المضيف وتجديد موافقة رئيس الجمهوريّة المبدئيّة على مشروع intelligence, surveillance et reconnaissance.  هذا المشروع الذّي نشرت بعض تفاصيله الصفحة الرسميّة لحلف شمال الأطلسيّ الخاصّ بتنسيق الجهود على صعيد الاستخبارات والمراقبة وتبادل المعلومات بين مختلف أعضاء الحلف، ومن ضمنها تونس التي تحصّلت مؤخّرا على صفة “الحليف الأساسي غير العضو بالناتو”، إضافة إلى فتح المجال البريّ للقوات العسكريّة لتنفيذ مهامها. وهو ما يؤكّد مرّة أخرى مضيّ الحكومة التونسيّة قدما نحو تمكين قوّات حلف شمال الأطلسي من تواجد على الأراضي التونسيّة وفق الالتزامات التّي تفرضها عضويّة تونس في الحلف.

انهيار نظام معمّر القذّافي، وتحوّل كلّ من ليبيا وسوريا والعراق إلى ساحات مفتوحة لاستقطاب وتدريب المقاتلين الإسلاميين، جعل من جنوب البحر الأبيض المتوسّط وشرقه خطرا داهما على دول الاتحاد الأوروبي، سرعان ما تحوّل إلى حقيقة مع تتالي الهجمات الإرهابية في قلب العواصم الأوروبية. هذا الوضع الأمني الجديد أدّى بدوره إلى تهافت القوى الدولية إلى المنطقة ليتحوّل المتوسّط إلى ساحة حرب وتنافس بين أصحاب المصالح المختلفة. هذه البحر المطلّ على أهمّ مخزونات الطاقة ومعابر تصديرها، يزدحم اليوم باللاعبين الكبار الذّين يراقصون تونس ويغرونها “بجزرة” المساعدات الاقتصادية والرغبة في إنجاح “الاستثناء التونسي” في حين تستغل الحكومات المتعاقبة امتياز الجغرافيا لتُراقص الذئاب دون اعتبار لموعد انتهاء الوصلة.