لم يكشف البلاغ الذي أصدرته وزارة العلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان حول اللقاء الذي جمع الوزير مهدي بن غربية بشفيق صرصار رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات يوم الخميس 25 ماي 2017 عن تناول مرحلة ما بعد الاستقالة، بل اقتصر على ”استعدادات الهيئة للانتخابات المحلية القادمة ومساعيها لتعزيز مواردها البشرية على المستويين المركزي والجهوي“. المرحلة الجديدة التي دخلت فيها الهيئة العليا المستقلة للانتخابات تطرح تساؤلا مُهمّا حول مستقبل المسار الانتخابي ومدى تأثّره بالموزاين السياسية والحزبية.

الهيئة بين شبهات الاختراق والمسايرة

شفيق صرصار الذي بدى شديد التأثّر عند إعلانه قرار الاستقالة يوم 9 ماي 2017،  تحدّث عن أزمة كبرى داخل الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات ”تمسّ بالقيم وبالمبادئ التي تتأسّس عليها الديمقراطية“. هذه التصريحات لم تخل من الغموض والتكتّم، لكن في الأثناء اتجهت الأنظار إلى خطورة هذه الاستقالات وأثرها على الاستحقاق الانتخابي المنتظر خلال 6 أشهر.  من جهتها انخرطت الأحزاب الحاكمة في منطق احتواء الأزمة ودفع شفيق صرصار وزملائه للعدول عن قرار الاستقالة، في هذا السياق برزت حركة النهضة التي صرّح رئيسها راشد الغنّوشي في وقت سابق أنّ ”شفيق صرصار قطع وعدا للشعب التونسي بإجراء الانتخابات المحليّة، وسينجز الحرّ ما وعد“، مضيفا أنّ رئيس الهيئة ”مستعدّ للتراجع عن استقالته والوفاء بوعده في إجراء الانتخابات المحليّة في موعدها“. غير أنّ هذه المساعي من خارج الهيئة لم تُوفّق لتصبح الاستقالات أمرا واقعا دفع في اتجاهه بعض أعضاء الهيئة من ضمنهم نبيل بفون الذي أشار إلى أن ”محاولة إقناع الأعضاء بالعدول عن فكرة الاستقالة مسألة لا معنى لها، ذلك أنّه تمّ الإعلان عنها في وسائل الإعلام قبل استشارة بقية الأعضاء“.

وجّهت الهيئة معاينة سدّ الشغور يوم 18 ماي 2017 إلى مجلس نوّاب الشعب، وسيتمّ فتح باب الترشّح لعضوية الهيئة أمام الأساتذة الجامعيين والقضاة الإداريين والقضاة العدليين ومن ثمّ فرز الترشّحات عن كلّ فئة ليتمّ التصويت في جلسة عامّة بأغلبية ثلثي مجلس نوّاب الشعب واختيار رئيس وذلك قبل العطلة البرلمانية في 25 جويلية 2017. رغم أن قضية الخوض في فرز الترشحات داخل لجنة النظام الداخلي والحصانة والقوانين البرلمانية تعتبر سابقة لأوانها بالنسبة للكثير من النوّاب إلاّ أن هذه اللجنة كانت على اطلاع على تأزم الأوضاع داخل هيئة الانتخابات إذ سبق لشفيق صرصار والنائب مراد بن مولى والقاضية لمياء الزرقوني أن عرضوا داخلها أسباب الاستقالة التي وصفوها بـ”انتهاكات خطيرة تمسّ من قيم الديمقراطيّة والمسار الانتخابي“. في هذا السياق أشارت القاضية المستقيلة لمياء الزرقوني إلى اختراق بعض العناوين الالكترونية للأعضاء داخل الهيئة. وهو ما أكده الرئيس المستقيل بإشارته إلى ”الممارسات البوليسية المتكرّرة التّي تهدّد السلامة المعلوماتية للهيئة“، إضافة إلى الضغوطات والمضايقات التّي طالته بعد تعويض ثلث الهيئة وانطلاق العمل بالتركيبة الجديدة، التي وصلت حدّ مطالبته بالاستقالة.

وتجدر الإشارة إلى أن مجلس نوّاب الشعب يمارس دورا رقابيا على عمل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي ترفع تقريرا سنويا يُناقش في جلسة عامّة مخصّصة للغرض مثلما ورد في الفصل 125 من الدستور. ولكن في ظل هيمنة التجاذبات الحزبية على قبة البرلمان أصبح الدور الرقابي للمجلس ضعيفا، الأمر الذي انسحب على الأوضاع الداخلية للهيئات الدستورية.

 الوضع المالي للهيئة والاستقالة: أي ارتباط؟

ألقى التزامن بين عرض تقرير دائرة المحاسبات في 11 ماي 2017 والإعلان عن قرار الاستقالة يوم 9 ماي بضلاله على الأزمة داخل الهيئة، إذ أدّى الترابط الزمني إلى تغذية الشكوك حول شبهات الفساد. الربط بين الاستقالة والفساد نفاه كلّ من أعضاء مجلس الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات ودائرة المحاسبات. في هذا السياق أكّدت القاضية في دائرة المحاسبات، فضيلة القرقوري لنواة ”أنّه تمّت المصادقة على تقرير الدائرة خلال الجلسة العامّة في 25 أفريل 2017 وأنّ موعد الندوة الصحفيّة قد حُدّد دون أن يكون لنا علم بقرار الاستقالة“. هذا ورصد التقرير مختلف التجاوزات على مستوى التصرّف في الموارد البشرية وفي الميزانية وكذلك التصرّف المحاسبي والجبائي والمتعلّق بالانتخابات التشريعية والرئاسية بالفترة الممتدّة من 9 جانفي 2014 إلى موفى ديسمبر 2014 مع الأخذ بعين الاعتبار استمرار بعض الوضعيات والأعمال إلى موفى جوان 2016. وكشف التقرير عن عجز محاسبي بلغ 3.060 مليون دينار بالنسبة لتكلفة الانتخابات، فقد بلغت تكلفة الانتخابات التشريعية والرئاسية بدورتيها سنة 2014، حسب دائرة المحاسبات 84.196 م. د مقابل تقدير هيئة الانتخابات لجملة التكاليف ب 81.752 م. د.

بلغ عدد العاملين بالهيئة خلال أيام الاقتراع في الانتخابات التشريعية والرئاسية لسنة 2014 حوالي 60 ألف عونا. وبلغت المصاريف المتعلّقة بالموارد البشرية حوالي 55.7 م.د وهو ما يتجاوز نصف الميزانية المرصودة للهيئة بعنوان نفس السنة. ونتج عن عدم إحكام توظيف الهيئة لمواردها البشرية على ضوء نشاطها الفعلي خارج الفترات الانتخابية تحملها مصاريف هامّة تجاوز مجموعها 4 مليون دينار. واعتمدت الهيئة على تنظير المساهمات الاجتماعية لأعضاء مجلسها، بأعضاء الحكومة من حيث نظام التأجير والمنح والامتيازات مما انجرّ عنه تحمل الهيئة لمبلغ قدّر بحوالي 74 ألف دينار دون موجب. كما رصد التقرير أن رئيس الهيئة الفرعية بايطاليا، تولّى تحويل حوالي 461 ألف دينار من الحساب البنكي للهيئة الفرعية إلى حسابه البنكي الشخصي وإلى الحسابات البنكية الشخصية لأعضاء الهيئة الفرعية، وهو ما جعل هذه الأموال خارج الرقابة وفاقدة لضمانات الشفافية. وبالنسبة للشراءات، استنتج التقرير اقتناء سيارات وظيفية زائدة عن الحاجة، 10 سيارات بقيمة قدرها 750.400 ألف دينار. كما تم الوقوف على ضياع 18 حاسوبا محمولا و48 هاتفا جوّالا، فضلا عن ضياع معدّات ترجع ملكيتها إلى المركز الوطني للإعلامية بقيمة 34.800 ألف دينار. ووضّحت فضيلة القرقوري لنواة قائلة ”وقفنا في التقرير على الإخلالات والتجاوزات المتعلّقة بالتصرّف في الموارد البشرية وكذلك محدودية آليات المحاسبة على الممتلكات وقدّمنا جملة من التوصيات منها إعداد خطّة واضحة لترشيد صرف المنح، كما دعينا إلى استرجاع المبالغ والالتزام بالشفافية وبالأحكام القانونية مع ضرورة التحديث في التصرّف المالي والإداري والتشديد على مقوّمات السلامة لأنّ الوثائق والبيانات التي لدى الهيئة ذات طابع حسّاس، وأخيرا الضغط على كلفة الانتخابات واعتماد المحاسبة التحليلية“.

في انتظار البتّ في مسألة سد الشغور داخل الهيئة والذي يتلازم مع إخلالات مالية وضعف الرقابة البرلمانية يلوح المسار الانتخابي الجديد ملتبسا في منحاه الإجرائي، هذا إضافة إلى هيمنة الحسابات الحزبية التي تطغى على تصور الفاعلين السياسيين للعملية الانتخابية.