وقف عاشور في شرفة مكتبه بمقر الاتحاد، ملوحا بيديه للجماهير المتجمعة في بطحاء محمد علي، دقائق قبل تحوُّل المقر إلى هدف للقنابل المسيلة للدموع، وقبل يومين من الإضراب العام الذي أقره الاتحاد والذي واجهته حكومة الهادي نويرة بقمع وحشي أسقط قتلى وجرحى. كانت إشارة الحبيب عاشور بيده إلى الجماهير المتجمعة في بطحاء محمد علي محل تحقيق في ذلك العام لإثبات تهمة التسبب في أعمال شغب، وهي ضمن تهم أخرى وجهتها السلطة لعاشور الذي قُبض عليه على خلفية الاضراب العام لسنة 1978 صحبة نحو سبع مائة نقابي آخرين.
يوم 7 جوان 2022، استحضرت صحيفة الشعب شهادة أوتوكريستن أمين عام السيزل خلال محاكمة الحبيب عاشور إثر الاضراب العام، والذي دفع عن زميله وصديقه تهمة إعطاء أوامر بالتخريب أو الشغب ودافع عن شرعية الإضراب الذي واجهته السلطة بالرصاص. أما الآن، فيبدو أن التاريخ قد أعاد خطّ بعض التفاصيل التي وضعت الاتحاد العام التونسي للشغل في مواجهة السلطة، تماما كما حصل في بداية سنة 1978، وهي مواجهة سياسية لا أحد يمكنه التنبؤ بمسارها.
يختبر التونسيون من جديد تجربة اجتماعية واقتصادية وسياسية قاسية، سبق أن عاشها الأبناء والآباء وحتى الأجداد، وهي تجربة مماثلة إلى حد كبير لعقد سبعينات القرن الماضي. ففي تلك الفترة، لم يمض سوى عقدان على استعادة البلاد أرضها من الاستعمار، علق خلالها التونسيون كل آمالهم على الوعود التي أطلقها الرئيس الحبيب بورقيبة آنذاك ببناء دولة تستجيب لانتظاراتهم.كان ذلك في عهد الجمهورية الأولى التي شهدت انتكاسات اقتصادية وسياسية تعززت بإقرار حكم حزب واحد ورئيس واحد، والآن، لا تفصل التونسيين سوى أيام معدودة على استفتاء يطمح باعثه لاتخاذه نقطة بداية جمهورية ثالثة، تزامناً مع بلوغ الأزمة الاجتماعية والاقتصادية أوجها.
أزمة تعمقت بحكم فردي للرئيس قيس سعيد وتوجه صارم نحو إقرار سياسة اقتصادية تقشفية تقضم نصيبا كبيرا من الدور الإجتماعي للدولة وتفتح كل الأبواب لتعميق أزمة المقدرة الشرائية. وضع أدى إلى صدام مع الاتحاد العام التونسي للشغل كما هو الشأن في كل محطاته منذ نشأته.
التفرد بالحكم يقود المعارضين إلى خيمة الاتحاد
في كتاب “بورقيبة” لصوفي بسيس وسهير بلحسن، تذكر الكاتبتان أن الرئيس التونسي الأسبق الحبيب بورقيبة استشهد بحاكمين يشهد لهما التاريخ بالدكتاتورية وهما الجنرال فرانكو حاكم إسبانيا ورئيس يوغسلافيا جوزيف تيتو ، لذلك أعلن بورقيبة في خطابه يوم 18 مارس 1975، حين أقر مجلس النواب بورقيبة رئيسا للدولة مدى الحياة أن “تعيينه “على رأس الدولة مدى الحياة يعتبر تكريما واعترافا بالجميل أمام العالم الذي يتماثل ويندمج مع تونس مؤكدا : “لقد خلصت البلاد من كل الشوائب التي تشوبها واجتثثت منها التقاليد الفاسدة“.
مهد بورقيبة لتفرده بالحكم مدى الحياة ب”بتطهير” الحزب الاشتراكي الدستوري، بعد فشل تجربة التعاضد بسنوات قليلة، وذلك في ما يسمى بمؤتمر الوضوح في سبتمبر 1974، ليقصي من الحزب مجموعة من الليبراليين قبل إقصاء وزراء في حكومة الهادي نويرة، عارضوا فكرة المواجهة مع الاتحاد العام التونسي للشغل.
وقبل ذلك حسم بورقيبة في مؤتمر الحزب بالمنستير سنة 1971، الخلافة في الأمانة العامة للحزب، لصالح الباهي الأدغم، ولم ترض مجموعة معارضة بذلك الحسم وانسحبت من الحزب، غير أنه لم يكن لتلك المجموعة المعارضة داخل الحزب أي تأثير ورميت الكرة في ملعب الاتحاد العام التونسي للشغل تماما كما هو الحال الآن بعد أن وضع الرئيس قيس سعيد كل السلطات بيده حين حل مجلس النواب وأبعد كل القضاة الذين لم يباركوا مساره، وضيّق على خصومه قبل آخر محطات الاستفتاء الذي يهدف من خلاله إلى وضع نظام حكم غير مفهوم.
لم يختلف دور الاتحاد العام التونسي للشغل بين العامين 1978 و2022، رغم أن علاقته التاريخية بالسلطة تنقلب من شيء من التفاهم إلى المواجهة. ففي فترة السبعينات، تحول الاتحاد إلى مظلة للمعارضين اتسعت بعد ارتفاع نسبة الشباب بين العمال، وتكوّن جيل جديد من العمال الذين تلقوا مسارا تعليميا محترما، وأصبح المعلمون وعمال البنوك والبريد مكونا أساسيا في المنظمة الشغيلة التي تحتم عليها أن تقدم هامشا كبيرا لذلك الجيل من أجل النضال، وحفزت أمينها العام الحبيب عاشور على قطيعة مع الحزب الحاكم آنذاك والخروج منه واستيعاب حماس ذلك الجيل الجديد الذي غزا هياكل الاتحاد العام التونسي للشغل فأصبحت القطيعة حتمية مع الحزب الاشتراكي الدستوري المتفرد بالحكم. و”كان السلاح الوحيد الصالح لذلك الجيل هو الإضراب”.
تقول الكاتبان صوفي بسيس وسهير بلحسن في كتابهما “بورقيبة” “في كثير من الأحيان، كان الإضراب عن العمل خارج سيطرة القيادة النقابية، التي تعلن أحيانًا أنها غير قانونية وأحيانًا أخرى تتبناها”. أما بالنسبة للوزير الأول الهادي نويرة والرئيس الحبيب بورقيبة فإن “كل إضراب هو عمل تخريبي للاقتصاد والوحدة”، وهو موقف لا تختلف فيه حكومة نجلاء بودن التي يديرها فعليا الرئيس قيس سعيد. فحكومة بودن ماضية في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي دون حضور الشريك الذي فرضه الصندوق ذاته حتى يضمن مسارا اجتماعيا سلميا. في المقابل، يصر الاتحاد العام التونسي للشغل على عدم إمضاء أية وثيقة في برنامج الإصلاح الاقتصادي الحكومي، لا سيما بعد أن وجهت رئاسة الحكومة منشورا اقترحت فيه إجراءات عاجلة ضمن ميزانية 2023 تضمنت تقليص كتلة الأجور وإيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية وعدم سد الشغورات، استنادا إلى توصيات صندوق النقد الدولي.
التصعيد السريع، نقطة تشابه أخرى
حين وقف الرئيس قيس سعيد مخاطبا التونسيين في 25 جويلية الماضي معلنا عن الإجراءات الاستثنائية، بارك الاتحاد العام التونسي للشغل تلك القرارات بشيء من الحذر، وكان واضحا أن المعارضة الحزبية ليست بالقوة التي تمكنها من مواجهة قرارت سعيد ولا الحديث عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تسببت في جزء كبير منها. وضع يختلف نوعا ما عن وضع المعارضة في بداية السبعينات، كما أن تلك المعارضة التي استبعدت من السلطة لا يمكن لمظلة الاتحاد أن تحتويها كما كان الشأن قبل ذلك، غير أن تفصيلا مشابها لتلك الفترة يعيشه الاتحاد العام التونسي للشغل مرة أخرى وهو أنه أصبح اللاعب السياسي الأوحد والأقوى القادر على مواجهة السلطة مرة أخرى. تبيّن ذلك في 23 ماي حين أعلن أنه لن يشارك في حوار صوري دعا له سعيد وهو يضع اللمسات الأخيرة على مشروعه السياسي الغامض. رغم ذلك لم يكن واضحا أن الاتحاد سيتخذ خطوة تصعيدية إعتبرتها المتحدثة باسم الحكومة “مفاجئة”.
كان الأمر كذلك قبل اضراب 1978، فحين عقد الاتحاد العام التونسي للشغل مؤتمره الرابع عشر في مارس 1977، لم يرسل آنذاك أية إشارة على قطيعة محتملة مع الحكومة. فأمين عام المنظمة كان في اللجنة المركزية للحزب الحاكم. كما أنه يدين للرئاسة بعودته إلى الاتحاد في بداية السبعينات. ووهو الذي أكد في مؤتمره أنه “إذا كان البعض يتبنى الاشتراكية ويوالي الماركسية اللينينية فإن الاتحاد والنقابيين في تونس لا يوالون إلا الزعيم بورقيبة ولا يتبعون غير منهج البورقيبية، المنهج الأمثل والأنسب لتونس”. توج ذلك باتفاق اجتماعي كان بمثابة الهدنة قبل أن تتداخل الأسباب في قطيعة بين السلطة والمنظمة الشغيلة منها استهداف الاتحاد من قبل ميليشيات ومخطط لاغتيال عاشور من قبل مبروك الورداني في العام 1977 أحد منفذي اغتيال صالح بن يوسف حسب الطاهر بلخوجة في كتاب “بورقيبة” والذي أخرج مسدسه في نزل في أحد فنادق سوسة قائلا : “إن نفس هذا المسدس الذي استعمل لتصفية بن يوسف سيستعمل في القضاء على عاشور”.
من المستبعد أن يواجه الاتحاد العام التونسي للشغل أو أمينه العام فوهات المسدسات رغم أن الطبوبي قال في خطابه اليوم إن عائلة حسن الطرهوني كاتب عام نقابة التبع والوقيد تعرضت ليلة الإضراب إلى هجوم بواسطة سيوف في منزلها من قبل مجهولين ما أدى الى تعرض أفرادها إلى إصابات متفاوتة الخطورة، مرجعا ذلك إلى موقف الطرهوني من الإضراب.
أزمة اجتماعية واقتصادية تخنق الأمل بجمهورية قوية
يقدم المعهد الوطني للإحصاء أرقاما تصور المأزق الاقتصادي والاجتماعي، فنسبة التضخم وصلت لأول مرة إلى 7.8% ، في أفريل الماضي. وبلغ معدل الضريبة على الدخل الشخصي 35%، أمام ارتفاع جنوني في الأسعار. وفق تلك الإحصائيات، ارتفع معدل الأسعار السنوي للعام الماضي بالنسبة للبيض بنسبة 24.2% الذي شهد نسبة ارتفاع شهري تقدر ب11.4% و ب21% بالنسبة لزيت الزيتون. وارتفع سعر الغلال الطازجة بنسبة 17.9% آخر العام الماضي، وهي زيادة قابلتها سياسة ضبابية للدولة في التحكم في غلاء الأسعار مقابل إصرارها على تنفيذ وعودها لصندوق النقد الدولي بالتقليص في كتلة الأجور وتجميد الزيادات فيها.
وضع اجتماعي واقتصادي مشابه لما عاشه التونسيون بداية من منتصف السبعينات. ففي تلك الفترة، كان الدخل السنوي لنصف التونسيين يقل عن 100 دينار. في حين يحصل 5% فقط من التونسيين على دخل سنوي يصل إلى 400 دينار. وكانت القدرة الشرائية للتونسيين حينها في انحدار كامل.
بداية من شهر أكتوبر 1978، بدا أن وقت المواجهة مع السلطة قد حان، بالتوازي مع خروج مظاهرات تحتج على تدهور القدرة الشرائية بسبب بطء نسبة النمو، وحسم الاتحاد العام التونسي للشغل آنذاك موقفه السياسي في العلن بعد أن ساند مطالب عمال وموظفي ديوان الأراضي الدولية الذين رفضوا خوصصتها. وأعلن أمينه العام موقفه من وضع الحريات وتفرد الحزب بالحكم بعد أن وضع بورقيبة نفسه الحاكم الأوحد للبلاد، في نوفمبر سنة 1977، قبل شهرين تقريبا من الاضراب العام.
يقول سامي الطاهري الناطق الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل في تصريح لموقع “نواة”
نحن نستحضر كل الاضرابات التي قام بها الاتحاد وأسفرت عن مواجهات مع السلطة بما في ذلك إضرابات سنوات 1946 و1965 و1978 و1985. لقد تعلمنا الكثير من تلك المحطات الموجعة، ولذلك رفضنا سياسة التسخير غير القانونية التي بدأتها السلطة سنة 1978، والتي أدت إلى مواجهات دامية. لقد تعلمنا من كل ذلك واعتمدنا سياسة ضبط النفس حتى لا نعيش مرة أخرى سيناريو 1978.
وفي المقابل بدا أن الحكومة كانت قد وضعت سيناريو 26 جانفي 1978 نصب أعين مسؤوليها، وسط تهديد صريح من حراك 25 جويلية المساند لقيس سعيد. حيث صرح وزير الشؤون الدينية إبراهيم الشايبي وهو يشد أزر وزير الداخلية بعد وفاة زوجته قبل يوم من الإضراب “هناك العديد ممن يتربصون بهذه البلاد في هذه اللحظة بالضبط ولكن أملنا في أنّ الوزير سيُواصل مهامه بأكثر جديّة وتفاني” وسط جو مشحون بالتحضير للإضراب العام.
لا يمكن أن يغامر قيس سعيد بإعادة سيناريو مواجهة السلطة للإضراب مثلما فعل بورقيبة في 26 جانفي 1978، بسبب اختلاف السياق الدولي ووعيه بالوزن الحقيقي للشريك الذي قد يعرقل الخلاف معه الحصول على دعم صندوق النقد الدولي، غير انه لا يمكن الحسم في مآلات القطيعة خاصة أن نور الدين الطبوبي صرح اليوم ردا على سؤال نواة بخصوص الخطوات التصعيدية القادمة بأن اجتماعا سيعقد خلال الساعات القادمة ليحدد أشكال التصعيد وأن “الاتحاد لن يقف مكتوف الأيدي إذا مضت الحكومة في سياستها الحالية”.
iThere are no comments
Add yours