يعلم المتابع للشأن السياسي التونسي منذ عقود أن قضية التآمر الجارية ليست القضية الأولى من نوعها التي تتهم فيها السلطة خصومها بالضلوع في التآمر على أمن الدولة او تهم أخرى مشابهة، فقد حُوكم المئات بمقتضى هذه التهم منذ عهد الاستعمار إلى اليوم. من مقاومين وقيادات بالحركة الوطنية مرورا باليوسفيين واليساريين وقيادات بالنقابات العمالية والإسلاميين تحت نظامي بورقيبة وبن علي، وصولا إلى قضايا تآمر شملت رجال أعمال بارزين وقيادات أمنية عليا فترة يوسف الشاهد وقضية التآمر الأخيرة التي لم تفصح بعد عمّا في جعبتها للرأي العام.

قضية التآمر نموذج للتعتيم وضرب مقومات المحاكمة العادلة

في شهر ديسمبر 2024، قضت محكمة التعقيب برفض جميع مطالب التعقيب في قضية التآمر على أمن الدولة، مع إحالة القضية على أنظار الدائرة الجنائية بالمحكمة الابتدائية بتونس. ومن المنتظر أن تنطلق الجلسات في هذه القضية يوم 4 مارس المقبل في ظل مطالب من هيئة الدفاع وعائلات الموقوفين ومنظمات حقوقية بضمان مبدأ علنية الجلسات حتى يطّلع الرأي العام على أركان القضية التي شغلت الرأي العام واحتلت صدارة الاهتمام في المشهد السياسي التونسي طيلة سنتين. هناك أكثر من قضية للتآمر أُذن فيها بالبحث لكننا اليوم بصدد تناول القضية الاشهر والتي شملت 52 متهما وحُفظت التهم في حق 12 منهم وأحيل 40 على الدائرة الجنائية في أفريل الماضي، ومن بين المتهمين نجد شخصيات سياسية بارزة على غرار عصام الشابي وغازي الشواشي وجوهر بن مبارك وخيام التركي ورضا بلحاج وشيماء عيسى والأزهر العكرمي وكمال اللطيف وعبد الحميد الجلاصي.

وطالبت هيئة الدفاع عن المتهمين في قضية التآمر على أمن الدولة بضرورة ضمان مبدأ علنية جلسات محاكمة المتهمين في هذه القضية ”بهدف إنارة الرأي العام التونسي حول ملابسات الملف“ بالإضافة إلى توفير الحد الأدنى من مقومات المحاكمة العادلة التي تضمن للمتهمين الدفاع عن أنفسهم، وذلك حسب بيان نشرته هيئة الدفاع وساندته شخصيات سياسية ونشطاء ومنظمات حقوقية. هذا الطلب يأتي بعد سنتين من التحقيق في هذه القضية التي تحولت إلى قضية رأي عام وزادت من شدة التوتر السياسي بين السلطة والمعارضة، هيئة الدفاع انتقدت طيلة مراحل التحقيق ما اعتبرته ضربا لحق الدفاع والمحاكمة العادلة وإيقاف المتهمين وتوجيه التهم لهم دون أركان وأدلة واضحة. كما جوبه قرار قاضي التحقيق المتعهد بالملف والذي منع التداول الإعلامي في قضية التآمر بانتقادات واسعة من قبل هيئة الدفاع والمنظمات والإعلام، وهو ما اعتُبر تعتيما عن أهم قضية رأي عام تشهدها البلاد في العقود الأخيرة.

فيفري 2024 تونس، وقفة احتجاجية أمام مقر الحزب الجمهوري مطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين في قضية التآمر – تنسيقية عائلات المعتقلين السياسيين

تمثل هذه القضية تحديا كبيرا للنظام الذي يروج لسردية تقوم على مؤامرة ينفذها معارضون مع دوائر اقتصادية هدفها الإطاحة برئيس الجمهورية بالتعاون مع جهات أجنبية، وتشمل هذه المؤامرة تعطيل مسار الإصلاح والتنمية وبث الإشاعات والأخبار الزائفة واحتكار المواد والسلع بهدف تجويع الشعب والتنكيل به… سردية تتجلى بوضوح في خطابات رئيس الجمهورية قيس سعيد منذ 25 جويلية 2021 وتبناها أنصاره بكل قوة، كان واضحا أن خطاب السلطة واثق بما لا يدع مجالا للشك بضلوع الشخصيات المتهمة في التآمر، وأن كل تبرئة للمتهمين يعتبر مشاركة مباشرة في الجريمة، وهو ما اعتبرته المعارضة ولسان الدفاع عن المتهمين تدخلا سافرا في عمل القضاء واستباقا للأعمال التحقيقية.

لا يخفى الطابع السياسي للقضية على أحد، ليس فقط بسبب الشخصيات السياسية والحزبية التي تُحاكم فيها، بل لأن مسار الأبحاث انطلق وفقا لمراسلة تلقتها النيابة العمومية من قبل وزيرة العدل، وذلك مباشرة عقب لقاء جمع الوزيرة برئيس الجمهورية حيث تباحثا ضرورة أن يلعب القضاء دوره التاريخي في تطهير البلاد من الخونة والمتآمرين على أمن الدولة. يأتي ذلك في سياق أُعلنت فيه نتائج الدور الثاني من الانتخابات التشريعية والتي شهدت إقبالا ضعيفا لم يتجاوز 11 بالمائة من الجسم الانتخابي، وهو أيضا سياق تواجه فيه السلطة تحديات اقتصادية واجتماعية من حيث فقدان المواد الأساسية وتراجع نسب النمو وفشل السلطة في الاستجابة للمطالب المتعلقة بالتشغيل والتنمية، فضلا عن توسع دائرة المعارضة للسلطة ومسار 25 جويلية وارتفاع الأصوات المنددة بسياسة التضييق على حرية التعبير والعمل السياسي والمدني.

التآمر على أمن الدولة: تهمة صالحة لكل زمان

 يعود النص القانوني لجريمة التآمر على أمن الدولة إلى عشرينيات القرن الماضي حيث صدر في شكل أمر عليّ سنة 1926، ليكون بذلك أداة في يد سلطات الاستعمار الفرنسية لقمع المناضلين من أجل الاستقلال. ووجهت السلطات الاستعمارية تهمة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي لمئات المناضلين التونسيين خاصة بعد أحداث 9 أفريل 1938، حيث اعتقل الاستعمار مئات التونسيين وعشرات القياديين في الحزب الدستوري والحزب الشيوعي وسُجن عدد منهم بتهمة التآمر على أمن الدولة وتحريض السكان. بمقتضى هذا النص القانوني مارس الاستعمار كل أنواع التسلط والنفي والاعتقال ومصادرة الممتلكات وحل الأحزاب والنقابات ومنع الصحف والنشر، لكن للأسف مفعول هذا النص لم يتوقف عند حدود فترة الاستعمار الفرنسي.

12 أفريل 1938 تونس العاصمة، مظاهرات عمالية مواطنية عارمة شهدتها البلاد تنديدا بجرائم الاستعمار الفرنسي ومطالبة بإطلاق سراح القادة السياسيين المعتقلين – أرشيف الحركة الوطنية

بعد الاستقلال استغل الراحل الحبيب بورقيبة فصول التآمر على أمن الدولة لحسم صراعه مع رفاقه من اليوسفيين، وهي نفس الطريقة التي واجه بها نظام بورقيبة ”مؤامرة 1962“ حيث أحيل المئات على المحكمة بتهمة التآمر على أمن الدولة وصدرت في بعضهم أحكام بالإعدام. نفس هذا النهج تواصل مع التنظيمات اليسارية (منها قضية العامل التونسي) والتي أحيل العشرات منها على محكمة أمن الدولة، ومع الاتجاه الإسلامي أيضا مارست السلطة نفس طريقة الحسم. بل إن شخصيات من داخل النظام وكانت تتمتع بنفوذ غير مسبوق، ونقصد هنا الوزير أحمد بن صالح الذي أحاله بورقيبة على المحكمة بتهمة الخيانة العظمى وهي إحدى التهم التي تدخل في إطار جرائم الاعتداء على أمن الدولة وتلقى بن صالح حكما بالسجن والأشغال الشاقة، والأهم من ذلك أن بورقيبة استعمل هذه  المحاكمة لمواجهة الغضب الشعبي ضد حكمه وأعاد نفس السيناريو أثناء الصدام مع الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1978 حيث مثل الزعيم النقابي الحبيب عاشور أمام محكمة أمن الدولة أيضا بتهمة الاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة حمل السكان على مهاجمة بعضهم بعضا بالسلاح، وغيرها من التهم المشابهة.

لم تختلف فترة حكم بن علي عن سابقتها وتواصل منطق التعامل مع القضايا السياسية بتوظيف القضاء والفصول القانونية وخاصة منها فصول الاعتداء على أمن الدولة الداخلي والخارجي. رغم أن بن علي استهل حكمه بإلغاء محكمة أمن الدولة إلا أن السياسة تواصلت بنفس القوانين والآليات، وتعامل مع حركة الاتجاه الإسلامي التي تحولت إلى النهضة بمنطق الاعتقالات العشوائية (خاصة في قضية براكة الساحل) وحوكم المئات من عناصرها بتهم مختلفة تتراوح بين الاعتداء على أمن الدولة والانتماء لتنظيم محظور مع أحكام سجنية مشددة بلغت حد المؤبد في حق العشرات من الوجوه القيادية النهضوية، مثلت هذه القضية نهاية ”فسحة الحريات“ التي استهل بها بن علي فترة حكمه وبداية عهد الانغلاق الذي استمر لعقدين من الزمن.

وللأسف لم تقطع الثورة مع هذه الممارسات حيث استعان رئيس الحكومة يوسف الشاهد بنفس هذه الفصول في معركته مع خصومه في حزبه نداء تونس حينها، ووجه تهما بالتآمر على أمن الدولة في حق شخصيات أبرزها رجل الأعمال شفيق جراية ووزير الداخلية ناجم الغرسلي والمدير العام للمصالح المختصة عماد عاشور ومدير الوحدة الوطنية للبحث في جرائم الإرهاب صابر العجيلي.

قد تختلف السياقات التاريخية لقضايا التآمر، وقد يعتبر البعض أنها كانت ضرورية في بعض الفترات للحفاظ على استقرار الدولة والبلاد، لكن الجميع يدرك أنها كانت ولا تزال سلاحا قويا في يد الحكام لتحقيق أهداف سياسية بغض النظر عن وجود تهديد حقيقي للدولة وأمنها من عدمه، ذلك أن توسع الحاكم في توظيف هذا النوع من القضايا جعلها آلية من ضمن آليات أخرى لفض النزاعات السياسية، في تونس أو في مختلف دول العالم وخاصة تلك التي تتخذ منحى الاستبداد، في النهاية نحن إزاء سلطة لا تجد حلا لمشاكلها إلا عبر القاء مسؤولية فشلها على عاتق المؤامرات والمتآمرين وتوظيف القضاء لإزاحة أي منافس سياسي مفترض.