ابدولاي، هو شاب من غامبيا، التقته نواة قبل أكثر من عام في أحد حقول الزيتون بالعامرة، حيث كان يرابط صحبة مئات آخرين من المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء. تحدث ابدولاي حينها عن حلمه بالوصول إلى أوروبا. كان يحمل بيده هاتفه ليطلعنا على فيديو لمداهمة قوات الشرطة لمخيمهم، طرح سؤالا على نواة أكثر من مرة: لماذا يفعلون ذلك؟ لم نقم بأي شيء يستحق كل هذا العنف والترهيب. هدفنا العبور إلى أوروبا وهم يسدون علينا كل المنافذ.

في جوان الماضي، توجه أبدولاي إلى المنظمة الدولية للهجرة وطلب ترحيله إلى بلده. يقول أبدولاي في تصريح لنواة:

خيّرت العودة إلى غامبيا بعد إصرار من أمي على رجوعي لأنها كانت تتابع وضع المهاجرين غير النظاميين في تونس. لم أتخل عن حلمي بالعبور إلى أوروبا لكن لن يكون ذلك عبر أية دولة عربية مثل تونس أو ليبيا أو الجزائر، هذا الأمر مستحيل وغير مطروح أبدا بعد ما عشته في تونس وخلال طريق العبور البري إليها. سأحاول الحصول على فيزا أو سأبحث عن الهجرة عبر مسالك اخرى لكنني لن أعود إلى تونس.

تضرب تونس منذ قرابة عامين حصارا على المهاجرين غير النظاميين الذين أُخرجوا من مدينة صفاقس قسرا، بعد أن كانت وجهتهم المفضلة التي يتمركزون بها حتى تحين فرصة العبور عبر أحد شواطئها نحو أوروبا. فبعد خطاب فيفري 2023 الذي ألقاه الرئيس قيس سعيد خلال اجتماع مجلس الأمن القومي، بدأت السلطة في طرح خطة ترحيل المهاجرين ليس نحو دولهم الأصلية، بل نحو وجهتين، إما الحدود الغربية والجنوبية للبلاد أو نحو مدن صغيرة مثل جبنيانة والعامرة والحنشة.

الدولة تهرب من حقيقتها

يوم 6 مارس 2024، طرح وزير الداخلية الأسبق كمال الفقيه أمام البرلمان ما أسماه  بالخطة الأمنية لمعالجة مسألة الهجرة غير النظامية، وقال متفاخرا ”حين أتيت إلى وزارة الداخلية، كانت الطبخة مطبوخة، والسابقون أمضوا على أن تكون تونس بلد قبول للمهاجرين ووضعوا المعايير، وامضوا الاتفاقيات، فقتلناهم في المهد لأن المعايير التي يمكن أن تحول تونس إلى بلد مهجر حذفناها، ولذا ما أطمئنكم به هو لا تخشوا على الزيتون ولا تخشوا على المدن وعلى الأحياء وخاصة مدينتنا العتيقة في صفاقس و يلائمني أن يكون المهاجرون في حقول الزيتون لا في المدينة العتيقة، وهذا الأمر هو خيار استراتيجي. نريد أن يكون المهاجرون بسلام لكن دون أن يدخلوا اضطراب على المدينة، لأنه يمكن أن ينتج الضغط على المدينة جرائم، عكس القرى التي يمكن أن يكون فيها الضغط أخف، لذلك قمنا بإخراجهم من المدينة تدريجيا، هناك من المهاجرين من تم نقلهم إلى الجنوب لأنني مجبر على أن أقسم الحمل وإلا ستحصل الفوضى“.

6 مارس 2024 البرلمان – كمال الفقي وزير الداخلية المقال أثناء شرحه ان نقل المهاجرين إلى غابات الزيتون بعيدا عن مركز مدينة صفاقس هو خيار استراتيجي للدولة – مجلس النواب

تذكر استراتيجية كمال الفقيه في تغطية الفشل في التعامل مع الملفات المعقدة بانتهاج سياسة ترحيل تلك الملفات من المدن نحو القرى المحيطة بها، بتعامل الدولة مع ملف الفضلات في صفاقس الذي رُحّل من أجل إطفاء أزمة المدينة، نحو مدينة عقارب.

وبدوره، سار خالد النوري، وزير الداخلية الحالي، بنهج مماثل، وهو الإيهام بحلّ الأزمة التي تسببت فيها ”استراتيجية كمال الفقيه“، وذلك بتفكيك مخيّم هنشير بن فرحات في العامرة وهو مخيّم تكون منذ منتصف العام 2023، تملكه عائلة أستاذ جامعي من مدينة صفاقس يدعى أرسلان بن فرحات.  يقول أحد سكان الجهة الذي كان شاهدا على تفكيك مخيمات المهاجرين غير النظاميين في هنشير بن فرحات إن ”الدولة وجدت حلاّ لصاحب حقل الزيتون فحسب، لا للمدينة كلها، فهو أصيل مدينة صفاقس ووجد دعما خاصا من فاطمة المسدي نائبة صفاقس، رغم أن المخيم الذي كان على أرضه هو أبعد مخيم عن التجمعات السكانية وأكثر المخيمات تنظيما. كنت شاهدا على تفكيك المخيم في حين بقيت مخيمات أخرى قريبة جدا منه“. وردد البعض على صفحات فايسبوك تلك السردية وهي ما أسموه التمييز بين صفاقس المدينة وبين ما يعرف بالأحواز أي المدن والقرى التابعة لولاية صفاقس إداريا والبعيدة عن مركز الولاية ترابيا.

منذ بداية مارس الماضي، قامت النائبة بالبرلمان فاطمة المسدي بحملة دعم كثيفة على مدى قرابة شهر لمساندة صاحب هنشير بن فرحات وزارت المخيم ونقلت صورا من زيارتها معلقة أنها اكتشفت ما أسمته بالدولة داخل الدولة، ودعت المسدي، خلال تصريح لإذاعة جوهرة أف أم الرئيس قيس سعيد  إلى ”زيارة مخيمات الأفارقة في العامرة ومعاينة الوضع في هنشير بن فرحات الذي تعتبر وضعيّته مرعبة، ووجود إقامات ومستشفيات خاصّة بهؤلاء المهاجرين غير النظاميين بالعامرة“.

جويلية 2023 صفاقس – بداية تجمع مهاجري جنوب الصحراء الافريقية في الأراضي الفلاحية بعد طردهم من وسط صفاقس المدينة – صور نواة محمد كريت

يقول رمضان بن عمر المسؤول عن ملف الهجرة في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تصريح لنواة إن سياسة الدولة قائمة على الارتجال وترتكز على نقل الأزمة إلى الفئات الأكثر هشاشة، حيث تطبق الدولة مفهوم الأشخاص الفائضين عن حاجة الدولة، وهم المهاجرون، فقامت بنقلهم إلى مكان آخر وخصائص هذا المكان هو أنه فيه أشخاص أكثر هشاشة. ويضيف بن عمر ”لذلك رأينا أن الدولة اختارت في مرة أولى نقل المهاجرين الذين كانوا وسط مدينة صفاقس إلى غابات الزيتون ومن كانوا في البحيرة أيضا تم دفعهم إلى غابات الزيتون في مناطق أكثر هشاشة، وبالطبع استنفذ هذا الحل مدته بعد الاحتجاجات، وحين بحثت الدولة عن حل للأزمة التي خلقتها بنفسها، كان كبار الملاكين هم المحظوظون لأنهم يملكون علاقات سياسية أو إعلامية ونجحوا في إثارة الموضوع من جديد وتدخلت الدولة، وهي المتسببة في نقل المهاجرين، وذلك تحت مسمى تطبيق القانون وإخلاء أراضي الغير، لذلك رأينا أن هذا الإخلاء تركز على مناطق معينة وتم تجاهل صغار الفلاحين وتم الدفع بالمهاجرين إلى أماكن أخرى مثل هنشير سيريس أو لأماكن أخرى تملكها فئات أقل احتجاجا. هذا الحل تعتمده السلطة السياسية لحلول الأزمات في مسألة التلوث مثلا عندما تم نقل الوحدات الملوثة من صفاقس إلى المظيلة وفي قابس أيضا وفي مسألة نقل المصبات خلال الأزمة التي شهدتها مدينة عقارب في مصب القنة. هذا ما يبين أن سياسات الأزمات تصنعها الدولة وتخلق منها أزمات أخرى ومن يضع هذه الاستراتيجيات هم أشخاص لهم مصالح وتأثير في كل العهود ويقع العبء على أشخاص ليس لهم امتداد في السياسة أو في الاقتصاد أو الإعلام“.

تم تشتيت المهاجرين غير النظاميين الذين فككت مخيماتهم في غابات الزيتون بالكلم 24 و25 وهنشير بن فرحات ودفعهم إلى منطقة بين العامرة ومنزل شاكر حيث يقع هنشير السريس التابع لأملاك الدولة وغابة زغدان إضافة إلى غابات زيتون أخرى، وحسب تصريح حسام الدين الجبابلي الناطق باسم الحرس الوطني، أوقفت الشرطة عددا من المهاجرين الذين كانوا في  مخيم هنشير بن فرحات وقامت بترحيلهم قسريا بداية من يوم 4 أفريل.

رواية واحدة

تتناول أغلب المؤسسات الإعلامية، العمومية منها والخاصة ملف الهجرة غير النظامية من زاوية واحدة وهي زاوية تتلاءم مع الرواية الرسمية للسلطة إلى حد التضليل، فقد تحدث تقرير بثته أخبار القناة الوطنية الأولى يوم 3 أفريل عن رغبة مهاجرين غير نظاميين بالعودة إلى بلدانهم وصفها التقرير بالعودة الطوعية، رغم أن التقرير ذاته نقل صور الجرافات وهي تقوم بهدم خيام المهاجرين غير النظاميين، في حين وصف تقرير آخر بثته القناة الوطنية يوم 5 أفريل عملية إزالة المخيمات ب”عمل دؤوب لإزالة مخيمات المهاجرين غير النظاميين العشوائية وإعادة الأراضي لأصحابها“، وجاء في هذا التقرير أن عمليات الإخلاء غلب عليها ”الطابع الأخلاقي والإنساني أكثر من الجانب الأمني“،  في حين لم يرد في أي من تقارير القناة الوطنية التي تناولت مسألة الهجرة غير النظامية عموما أو تغطية إزالة المخيمات، آراء لخبراء في العمل الإنساني بالتوازي مع حضور قوي لرواية وزارة الداخلية على لسان الناطق باسم الحرس الوطني.

5 أفريل 2025 النشرة الرئيسية للأخبار على القناة الوطنية 1 – تناقض صارخ بين صورة لنيران تشتعل ببقايا المخيم والعنوان المصاحب يتحدث عن عودة طوعية ومقاربة إنسانية.

لم تنخرط وسائل الإعلام العمومية فحسب في تبني الرواية الرسمية وحدها خلال تناول ملف الهجرة غير النظامية، بل سارت وسائل إعلام خاصة على المنهج ذاته، حيث نشرت جريدة الشروق مثلا فيديو بخمس دقائق في شكل vox pop، بعنوان ”ملف المهاجرين غير النظاميين .. اي حلول يقترحها الشارع التونسي؟“ قامت فيه الصحيفة بسبر آراء الشارع بخصوص الحلول التي يقترحونها في ملف المهاجرين غير النظاميين والذي طالب فيه المستجوبون بترحيلهم لأنهم قاموا بتخريب البلاد حسب قولهم.

في ماي الماضي، نشرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ورقة توجيهية للصحفيين في التعاطي الإعلامي مع ملف الهجرة غير النظامية، وسط موجة من التحريض ضد المهاجرين في وسائل التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام أيضا، وجاء في هذه الورقة أن وسائل الإعلام اكتفت بتغطية تقليدية للملف واعتمدت على البرامج الحوارية ”التي يغلب عليها التحريض ونشر الأخبار الزائفة والتضليل“.

يقول زياد دبار رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في تصريح لنواة إن الصحفيين ملزمين وفق ميثاق الشرف الصحفي بأن يؤمنوا بكونية حقوق الإنسان والتي من ضمنها الحق في حرية التنقل وهو حق تندرج ضمنه  الهجرة بكل أشكالها ويضيف أن النقابة رصدت إخلالات في التغطية الصحفية التي يقوم بها الصحفيون لملف الهجرة في اتجاهين: الأول في مسألة التغطية الإخبارية والتي لا تعطي مجالا لأن يكون صوت المهاجرين غير النظاميين حاضرا حتى يكون الجمهور على بينة من الصورة كاملة وغياب صوتهم يمثل اختلالا في التغطية الصحفية، الاتجاه الثاني هو التعليقات التي تغلب على التناول الإعلامي لقضية الهجرة سواء من الصحفيين في البرامج التلفزية أو الإذاعية أو من المعلقين القارين الموالين للسلطة، ويقول دبار:

لجأنا في النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى خطوتين لإلزام الصحفيين بالالتزام بتغطية مهنية لملف الهجرة، الأولى تتمثل على مستوى وحدة رصد الأخبار الزائفة  حيث تعمل الوحدة على التدقيق في الأخبار الزائفة أو المضللة التي تصدر عن صحفيين أو معلقين في مسألة الهجرة غير النظامية أما الخطوة الثانية فهي التعديل الذاتي وذلك بالتواصل المباشر مع الصحفيين في حال ارتكابهم أخطاء مهنية في علاقة بتغطيتهم لقضية الهجرة، وقمنا بالتواصل مع عشرات الصحفيين في الفترة الأخيرة لتنبيههم إلى عدة تجاوزات في المحتوى الصحفي الذي يقومون به، كما سنعمل على تنظيم ورشة حول التغطية الصحفية لقضايا الهجرة بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة في 3 ماي القادم.

سواء تعلق الامر بتعامل النظام أو الإعلام، العمومي والخاص الجماهيري، مع قضايا الهجرة غير النظامية صار التوجه العام جليّا واضحا: كل شيء مجاز في سبيل تبرير سردية الرئيس. وفي صورة تسرب فيديو أو إدلاء مسؤول بتصريح يضرب هذه السردية في مقتل، يكون الحل في ملاحقة من تجرأ على التصوير أو معاقبة المسؤول أو الوزير بالإقالة في صمت مع إغراق صفحات التواصل بمئات الاخبار المضللة والاكاذيب لتحاصر الحقيقة في مربعات ضيقة مع وصم المتشبثين بها بالخونة والعملاء.

وقد لا يختلف مصير هذا المقال عما سبق ذكره، فهو لم يصدر عن محرض متشنج يكتفي بالصراخ ويدّعي كشف المؤامرات طمعا في تسوية وضعية أو التقرب من مراكز القرار، وقد يتواصل رجم كل من ينتقد سياسات سعيد بأنه يريد عودة منظومة النهضة وحلفائها إلى السلطة، دون الاطلاع على مئات المقالات التي كشفت خور هذه المنظومة بشجاعة لما كانت في مركز قوة متربعة على عرش السلطة، لكن الأكيد أن الباطل زائل لا محالة وأن هذه الأبواق المتشنجة ستختفي فجأة وكأنها لم تكن لتدخل فيما يسمى بمرحلة ”الركشة الاستراتيجية“ قبل تحسس طريقها من جديد بحثا عن أحذية أخرى تحتاج لعقا وتلميعا.