في العام 2012 قال الرئيس الفرنسي الأسبق، اليميني المعادي للمهاجرين، نيكولا ساركوزي خلال حملته الانتخابية، ”على مدى خمس سنوات استطعت قياس قوة الأجسام الوسيطة التي تتدخل أحيانا بين الشعب وأعلى مستويات الحكم، والتي غالبا ما تدّعي التحدث باسم الشعب، والتي في الحقيقة تصادر صوته. ليس مواطنونا من يقاومون الإصلاحات، بل الهيئات الوسيطة التي لا تعشق شيئًا سوى التقاعس عن العمل“. في العام ذاته، كشف موقع ميديا بارت قضية فساد تعود إلى سباق الانتخابات الرئاسية الفرنسية لسنة 2007، حينها تسلم ساركوزي 50 مليون أورو من الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، لتعقبها قضية فساد أخرى في العام 2014، اتهم فيها ساركوزي بمحاولة التأثير في قرار قضائي.

يذكّر هذا الخطاب المخاتل، بعقيدة سياسية انتشرت على مدى ما يقارب القرن في شرق العالم وغربه، تدور في فلكه إلى غاية الآن، سياسات أنظمة وحكومات من بينها تونس تتأرجح بين اليمين الشعبوي وأقصى اليمين العنصري، التي تمثل الجمعيات والنقابات الخارجة عن فلكها تهديدا حقيقيا لسطوة خطابها المخادع على الفئات الأقل تعليما وثقافة، والتي تمثل لها خزانا انتخابيا طيّعا.

الأجسام الوسيطة عدو النظام الشعبوي

لا يمكن تفكيك سياسة السلطة التي يمثلها بالكامل الرئيس قيس سعيد، تجاه الأجسام المشاركة جزئيا في اتجاهات السلطة والمعروفة باسم الأجسام الوسيطة، دون فهم كامل لتصور سعيّد ذاته للسلطة. في الواقع، لم يخف الرئيس التونسي، منذ دخوله سباق الانتخابات الرئاسية للعام 2019، تصوره العام للحكم، قبل أن يبدأ فعليا بتجسيد ذلك التصور منتصف العام 2021.، لذلك ليس من المنطقي أن يستغرب متابعو الشأن العام كل خطوة يقوم بها سعيّد في اتجاه إزاحة الأجسام الوسيطة.  في أواخر ذلك العام، توضّحت اتجاهات الرئيس التونسي بعد إصدار المرسوم عدد 117، خاصة في فصليه الخامس والتاسع، حيث أعطى الفصلان صلاحيات مطلقة للرئيس بعد تعليق عمل البرلمان.

مجلس النواب باردو – البداية كانت بتجميد البرلمان السابق ثم تحويله من سلطة على وظيفة تشريعية – صفحة البرلمان الرسمية

لم يأت رفض الرئيس قيس سعيّد للأجسام الوسيطة من فراغ، فهو يتنزّل ضمن إيديولوجيا شعبوية أصبحت منذ بدايات القرن العشرين تيارا سياسيا ينتعش في ظلّ الأزمات الاقتصادية والسياسية الحادة، بدأ ظهورها في العقد الأخير من القرن التاسع عشر مع حزب الشعب الأمريكي الذي تشكّل بعد تحالف المزارعين وحزب ”النقود الورقية“ greenback، لكنها فشلت في الصعود للحكم، قبل أن تنتعش في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين بعد الأزمة الاقتصادية العالمية آنذاك، وتجسدت في صعود الأحزاب الفاشية المتفردة بالسلطة.

يقول هشام السنوسي عضو سابق في الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري في تصريح لنواة:

لا بد من تأصيل مفهوم الوساطة في الدولة الحديثة، فهو مرافق لمفهوم الديمقراطية الحديثة، والديمقراطية الحديثة هي تجاوز للكوارث التي جاءت بها صناديق الاقتراع قبل الحرب العالمية الثانية. يجب الا ننسى ان هتلر صعد إلى الحكم بعد انتخابات شفافة لكن باعتبار تسلطه أصبح الحاكم بأمره، كانت نتائج حكمه كارثية على العالم.

في حالة تونس تمثّل الأجسام الوسيطة، وهي الهيئات المستقلة والمنظمات غير الحكومية والإعلام والأحزاب وغيرها، إحدى دعائم الديمقراطية التمثيلية، خلال الأزمات التي تعيشها أنظمة الحكم التي تحكم ضمن الديمقراطية التمثيلية والمتمثلة أساسا في الإخلالات الوظيفية للديمقراطية، تُولد فرصة ثمينة للتيار الشعبوي الذي غالبا ما يؤدي صعوده إلى تحميل وزر الفشل لنظام الحكم الذي سبقه ثم يسوع دائرة سخطه على الأجسام الوسيطة التي لا تكون مشاركة فعليّا في الحكم.

يذكر الباحث بيير روزانفالون في كتابه ”قرن الشعبوية: التاريخ والنظرية والنقد“ أن:

العناصر الخمسة المكونة للثقافة السياسية الشعبوية هي: مفهوم الشعب ونظرية الديمقراطية وأسلوب التمثيل وسياسة وفلسفة الاقتصاد ونظام العواطف والمشاعر. ويُعدّ مفهوم الشعب، القائم على التمييز بين هم ونحن، العنصر الأكثر تحليلا. أما النظرية الشعبوية للديمقراطية، فتستند إلى ثلاثة عناصر وهي: تفضيل الديمقراطية المباشرة المتمثلة في تقديس الاستفتاء، ورؤية استقطابية وانتخابية مفرطة للسيادة الشعبية ترفض الهيئات الوسيطة وتسعى إلى تدجين المؤسسات غير المنتخبة مثل المحاكم الدستورية والسلطات المستقلة، وفهم الإرادة العامة باعتبارها قادرة على التعبير عن نفسها بشكل تلقائي. إن أكثر الانتقادات السياسية شيوعا للشعبوية هو وصفها باللاتحررية، أي نزعتها إلى إعطاء أولوية ثانوية لتوسيع الحقوق الفردية ذات البعد المجتمعي مقارنةً بتأكيد السيادة الجماعية، وفي الوقت نفسه توجيه الاتهام إلى الهيئات الوسيطة باعتبارها تعرقل عمل السلطات المنتخبة.

أكتوبر 2019 تونس – هيئة مكافحة الفساد تنظم للهيئات الدولية لمكافحة الفساد، قبل اغلاقها وملاحقة مسؤوليها بعد 25 جويلية 2021 – Inlucc

ينسحب هذا التعريف بالكامل على الوضع في تونس، فبعد شهر تقريبا من إعلان الرئيس قيس سعيد تجميد البرلمان يوم 25 جويلية، قررّ إغلاق كل مقرات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد والتحفظ على ملفاتها، ومثل إغلاقها رفع غطاء الحماية الذي تمنحه حصرا الهيئة للمبلّغين عن الفساد. لم تكن هيئة مكافحة الفساد الوحيدة التي استهدفها سعيد ضمن نهجه الرافض للأجسام الوسيطة، ففي ديسمبر 2023، راسل الكاتب العام للحكومة مجلس الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري لإعلامهم بتجميد أجورهم بداية من جانفي 2024، وهو ما يعني تجميد مجلسها.

يقول هشام السنوسي العضو السابق بالهايكا لنواة:

عندما تم إلغاء دور الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري كان ذلك على أساس نبذ سعيد للأجسام الوسيطة لكن السبب الحقيقي وراء  ذلك جاء بعد رفض مجلس الهيئة الإمضاء على قرار مشترك مع الهيئة العليا المستقلة للانتخابات سنة 2022 لان الهايكا رأت أن تنظيم الانتخابات في ذلك الشكل لا يستجيب لمعايير الشفافية ولحرية التعبير، راسل مجلس الهيئة رئيس الجمهورية وضمّن في رسالته موقفه من مسار الانتخابات والخوف على المكتسبات التي جاءت بعد الثورة مثل حرية التعبير وانه بقدر ما كان للهيئة موقف من العشرية الماضية ومن أداء الأحزاب بقدر ما تحتفظ بإيجابيات هذه الثورة وعلى رأسها حرية التعبير.

ويضيف السنوسي أنه بتحليل خطاب سعيّد الذي يناصب العداء للأجسام الوسيطة، يتّضح في الواقع أن سعيّد يحاول وضع اليد على كامل مفاصل الدولة وممارسة التسلط، تجسّد ذلك في السجون الممتلئة بالمعارضين واستبعاد صحفيين جريئين من المصدح وهي مؤشرات واضحة على توجه سعيّد.

في تصريح سابق سنة 2024 لنواة من المرحوم شوقي قداس الرئيس الأسبق للهيئة الوطنية لحماية  المعطيات الشخصية، ذكر أن الرئيس قيس سعيّد أعلن أن الهيئات المستقلة هي بصدد هدم الدولة من الداخل، وبدا أن سعيّد يؤمن فعلا بخطورة الهيئات وبقية الأجسام الوسيطة خاصة المنظمات الحقوقية، على سلطته، وشنّ هجمات مكثفة على أغلبها سنة 2024. ففي 7 ماي 2024، تم إيقاف مصطفى الجمالي رئيس المجلس التونسي للاجئين وعبد الرزاق كريّم مدير المشاريع بالمجلس وأدى ذلك إلى إغلاق المنظمة التي كانت تعاضد المفوضية العليا للاجئين في مهامها الإنسانية. وأدت حملة الاعتقالات التي استهدفت عاملات وعاملين في منظمات ناشطة في مجال الهجرة إلى توقف عمل تلك المنظمات، رغم أن الدولة ضمّنت بفخر إنجازات هذه المنظمات في مجال الهجرة في ردودها الرسمية على مساءلات دولية.

ماي 2013 قرطاج، الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر يستقبلان أعضاء الهايكا التي جمدها نظام 25 جويلية – Haica

في 21 ماي 2024، تم إنهاء إلحاق عدنان الأسود بهيئة النفاذ للمعلومة، والذي كان يسير الهيئة منذ فيفري 2020 باعتباره نائب رئيسها الأسبق عماد الحزقي الذي تولى في ذلك التاريخ منصب وزير الدفاع الوطني، وبعد شهر تقريبا، أُنهيت مهام حفصية العرضاوي على رأس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية، ودخلت الهيئتان في حالة تجميد خفيّ لأنشطتهما بسبب عدم سد الشغور، ولكن ذلك التجميد أصبح فعليا حين قررت السلطة سنة بعد ذلك وقف عمل هيئة النفاذ للمعلومة وإغلاق مقرها.

يحتكر الرئيس قيس سعيّد كل السلطات مناقضا خطبه التي ردد فيها أكثر من مرة أن الشعب هو من يقرر، كان منهجه في تعزيز سلطته هو ازدراء الأجسام الوسيطة بجميع مكوناتها والتخلّص من بعضها بطرق مختلفة.

الجسم الأوحد يواجه الفشل

عشية يوم 11 أوت الماضي، نزل الرئيس التونسي في جولة إلى شارع الحرية بالعاصمة، وزار مقر منظمة الدفاع عن المستهلك الذي أعلن أنه سيكون مقر المجلس الأعلى للتربية، وصبيحة اليوم الموالي لم يعد للافتة المنظمة وجود على مدخلها. كانت تلك الزيارة رسالتين الأولى أن الدولة استرجعت مقرا من جسم وسيط أما الرسالة الثانية فهي أنها افتكت الدور الذي كانت تقوم به المنظمة وهو الدفاع عن المستهلك، وتجسّد ذلك جليا في بيان وزارة الداخلية يوم 6 سبتمبر الذي أعلن عن قيام قوات من الشرطة بحملات لمراقبة الأسعار ومكافحة الاحتكار وجاء في ذلك البيان أن ”الدّولة التونسيّة لن تتخلى عن مسؤوليّاتها في الدّفاع عن حقوق المستهلك“.

لا يمكن أن يكون ازدراء الأجسام الوسيطة من قبل سعيّد فعلا مجانيا، فاستبعاد الهيئات المستقلة أو الأحزاب أو المنظمات أو النقابات أو الإعلام، له سبب واحد وهو التحوّز على كل أدوار تلك الأجسام وهي أدوار تسند الدولة أحيانا خاصة في ملفات مثل ملف الهجرة.

منذ خطاب فيفري الشهير سنة 2023، والذي هاجم فيه الرئيس قيس سعيد المهاجرين غير النظاميين، لاحت أزمة في التعامل الرسمي مع ملف المهاجرين غير النظاميين وطالبي اللجوء، وتوضحت سياسة الدولة في جويلية ذلك العام حين بدأت حملات رمي مهاجرين وطالبي لجوء في الحدود التونسية مع ليبيا والجزائر وإجبار آخرين على البقاء في حقول الزيتون في مدن مناطق مجاورة لمدينة صفاقس. وبحلول منتصف العام 2024، بدأ الحديث جديا عن أزمة إنسانية خانقة عانى منها المهاجرون وخاصة طالبي اللجوء بعد ضرب منظمات ناشطة في مجال الهجرة وخاصة المجلس التونسي للاجئين الذي كان يعاضد رسميا مهام المفوضية العليا لشؤون اللاجئين من خلال استقبال طلبات اللجوء. يعد توقف عمل المجلس، يواجه طالبو اللجوء في تونس معضلة كبرى بسبب عدم تجديد بطاقاتاهم الخاصة بطلب اللجوء.

لم تفشل السلطة في ملف الهجرة فحسب، فمنذ أكثر من أربعة سنوات، أغلقت أبواب الحوار مع الاتحاد العام التونسي للشغل، مما يعني تعليق الحوار الاجتماعي، في المقابل، أراد سعيّد أن يبيّن أن بإمكانه الاستجابة لمطالب العمال دون وساطة، وأعلن عن قرار منع المناولة، لكن بعد مرور أشهر قليلة، تبيّن أن ذلك القرار تسبب في طرد مئات العمال دون تسوية وضعياتهم. يقول هشام السنوسي لنواة:

المشكل أن النظام الحالي لا يملك  أي تصور حول كيف يكون الحكم دون أجسام وسيطة مثل المنظمات والنقابات والأحزاب والهيئات المستقلة، وهو أمر واضح وجلي خاصة في قطاعات كثيرة منها قطاع الإعلام.

منذ تجميد مجلس الهايكا، يواجه قطاع الإعلام في تونس أزمة واضحة، حيث سيطر الخطاب الرسمي دون غيره على وسائل الإعلام الحكومية، في حين تقع بقية وسائل الإعلام الخاصة والمستقلة تحت ضغط متفاوت الدرجات، أغلقت أبواب المعلومة الرسمية في وجه الصحفيين مما سمح للرواية الرسمية التي تنشر حصرا على صفحات فيسبوك لرئاسة الجمهورية وغيرها من هياكل ووزارات الدولة الرسمية، من أن تكون الرواية الوحيدة التي يتم تداولها.

في أقل من خمس سنوات، نجح سعيد في إزاحة كل جسم يمكن أن يكون له دور يشاركه في تقديم تصور أو رسم وجه الدولة، فبعد ان نزع صفة السلطة عن القضاء والتشريع وجعلها حصرا في يده، عمل تباعا على ازاحة ما تبقى من منظمات ونقابات قد تكشف حدود خطابه، والحقيقة انه لم يجد صعوبة في اسكات أصوات غير مستعدة لمواجهة التسلط والاستبداد بل فضل اغلبها الانحناء او مسايرة العاصفة في انتظار مرورها، وحتى جحافل الخبراء وأصحاب الرأي في الشأن الجمعياتي الذين تصدروا المشهد بعد سنة 2011، صار اغلبهم يتهرب من التصريح إلى وسائل الاعلام الجادة تجنبا لوشاية قد تضعهم في قائمة المغضوب عليهم. في المقابل رسم سعيد خلال تلك السنوات خطته لما أسماه البناء القاعدي بعناوين مشاركة واسعة للشعب دون وسيط في توجهات الدولة. في الواقع، كان سعيّد وفيا لمبدأ واحد وسار فيه للنهاية وهو إزاحة الأجسام الوسيطة لكنه غضّ طرفه عن مبدأ أوصله للحكم وهو تمكين الشعب من المشاركة في السلطة.