!رغم غياب تعريف واضح للمعارضة السياسية في أغلب النصوص القانونية وأولها الدستور التونسي الجديد، إلا أنّ السلطة التشريعية حدّدت اطرا واضحة لمجال نشاط المعارضة في الفصل 60 الذّي جاء فيه: “المعارضة مكوّن أساسي في مجلس نواب الشعب، لها حقوقها التي تمكنها من النهوض بمهامها في العمل النيابي وتضمن لها تمثيلية مناسبة وفاعلة في كل هياكل المجلس وأنشطته الداخلية والخارجية…”
نصّ رسم حدود النشاط السياسي للأحزاب المعارضة للحكومات المنتخبة، وحصرها ضمن العمل النيابي والأطر “الديمقراطية” التي حدّدتها الأحزاب الكبرى في البلاد. لكن التاريخ المعاصر، أثبت ان النص الدستوري لم يكن يوما محدّدا لإيقاع الحياة السياسية في تونس، فالسياقات وإرث الماضي، وطبيعة التحالفات بين الأحزاب والتموقعات المختلفة، لطالما خلقت حراكا موازيا وفتحت الساحة للاعبين جدد قدامى، كسروا الإطار الكلاسيكي للحياة السياسية وفق متطلّبات وشروط كلّ مرحلة سياسية عرفتها البلاد.
18 أكتوبر 2005 : العلامة الفارقة في مسار الصراع على السلطة
في مكتب المحامي المعارض لنظام بن علي حينها، العياشي الهمامي، انطلق إضراب الجوع لأهم ثمانية شخصيات سياسية مناوئة للنظام في الثامن عشر من أكتوبر سنة 2005. هذا التاريخ سيظلّ أحد العلامات الكبرى في التاريخ السياسي المعاصر، لما مثّله من وحدة غير مسبوقة بين فسيفساء الأطياف السياسية المعارضة، إضافة إلى وقعه السياسي والإعلامي في ذلك الوقت وارتداداته المستقبلية على مسار العمل السياسي خاصة بعد 14 جانفي 2011.
ممثّلين لأحزابهم وبمشاركة شخصيات مستقلة، بدأ كلّ من محمد نجيب الشابي، حمه الهمامي، مختار اليحياوي، لطفي حاجي، سمير ديلو، محمد النوري، عبد الرؤوف العيادي والعياشي الهمامي إضراب جوع مثّل الخطوة الأولى لتوحيد عمل مجموعة من الأطياف السياسية والحقوقية ضمن إطار سياسي موحد تحت اسم “هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات” والتي أعلن عنها رسميا في 24 ديسمبر 2005. ليلتحق بها فيما بعد طيف من الشخصيات الحقوقية والسياسية على غرار سناء بن عاشور، البشير الصيد، وعدد من ممثلي الأحزاب كجنيدي عبد الجواد عن التجديد وخليل الزاوية عن التكتل. استنكرت الهيئة في بيانها التأسيسي الوضع العام في البلاد ودعت إلى “بلورة عهد ديمقراطي يكفل لكل المواطنين والمواطنات المساواة والحريات والحقوق الأساسية غير القابلة للتصرف أو الاستنقاص ويشكل قاعدة للمشاركة السياسية والتداول على الحكم على أساس تنافس البرامج والرؤى وهو عهد من شأنه أن يرتقي بمستوى وحدة العمل إلى إرساء أسس التغيير الديمقراطي”. كما تم انشاء “منتدى 18 أكتوبر للحوار” في صلب الهيئة للبت في المواضيع الخلافية بين مختلف المكونات السياسية المتباينة فكريا. وقد ادّت النقاشات إلى نشر سلسلة من الاصدارات “في العلاقة بين الدولة والدين” و” حول حرية الضمير والمعتقد” و” حول حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين”. هذه الخطوة، أثارت انتقادات مجموعة من الأحزاب اليسارية بالخصوص على غرار حركة الوطنيين الديمقراطيين والعمل الوطني الديمقراطي وعدد من الشخصيات النقابية والحقوقية الأخرى التي أصدرت ما يُعرف بوثيقة “حول انحراف داخل اليسار أو عندما يضلّ رفاق الطريق” في فيفري 2006.
أمّا النظام الذّي تعوّد الانفراد بخصومه السياسيين، وجد نفسه هذه المرّة في مواجهة كتلة أكثر قوة وقدرة على التحرك والتأثير، وقد شهدت تحركات هيئة 18 أكتوبر متابعة إعلامية ملحوظة، أجبرت النظام على استعمال المزيد من الترهيب الأمني وتكثيف محاصرة الاجتماعات ومقرات الأحزاب.
تجربة هيئة 18 أكتوبر، لم يكتب لها المضي قدما أكثر من 4 سنوات، حيث اصطدمت بالخلافات التي نشبت بين مختلف مكوناتها على خلفية تباين المواقف من الانتخابات الرئاسية سنة 2009. خصوصا مع رفض حزب العمال وحركة النهضة المسرحية الانتخابية واتخاذ موقف جذري من المشاركة فيها، ورأت فيها تجميلا للنظام أكثر من إدانته، ورغبة أطراف أخرى على غرار الحزب الديمقراطي التقدمي والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات والتجديد في المشاركة ومنافسة بن علي رغم يقينهم من نتيجة الانتخابات المحسومة مسبقا.
الأمتار الأخيرة في عمر النظام
الانتفاضة الشعبية التي انطلقت في 17 ديسمبر 2010، مثلت مراكمة لسلسلة من نضالات مختلف أطياف المعارضة من أحزاب ومنظمات نقابية وحقوقية. وعلى الرغم من غياب تأطير أو تأثير واضح ومباشر للأحزاب على التحركات الاحتجاجية في مختلف الجهات خلال تلك الفترة، إلا أن هؤلاء كانوا في صميم حسابات النظام الذي رأى فيهم أداة لتخفيف الاحتقان وشماعة لانفلات الأمور من وجهة نظره.
أحزاب المعارضة التي توحدت في بياناتها حول إدانة استعمال الرصاص الحي وعمليات الإيقاف والمطالبة بالاستجابة لمطالب المنتفضين، اختلفت رؤاها مرّة أخرى حول كيفية التعاطي مع النظام المتهاوي. الأحزاب الثلاث التي اختارت سنة َ2009 المشاركة في الانتخابات الرئاسية، وهي الحزب الديمقراطي التقدمي، التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات إضافة على حزب التجديد، راهنت على التفاوض مع النظام والمشاركة في حكومة وحدة وطنية لم تر النور. أما بقية الأحزاب السياسية على غرار حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية وحزب العمال والوطنيون الديمقراطيون، فقد رفضوا بشكل قاطع التعامل مع بن علي وحكومته واجهزته داعين في بيانات مكتوبة ومصورة إلى المضي قدما في الإطاحة بالنظام.
هذا المفترق، ساهم في رسم صورة التحالفات القادمة والتعاطي مع حكومة محمد الغنوشي الأولى والثانية، ليمضي الفريق الأول -عدا التكتل الديمقراطي الذي انسحب في آخر لحظة- بعد 14 جانفي 2011 للمشاركة في حكومة الوحدة الوطنية الأولى والثانية برئاسة الوزير الأول السابق، ليختار الباقون طريق القصبة للإطاحة بما اعتبروه آخر بقايا النظام السابق.
ما بعد 23 أكتوبر 2011
أولى ارتدادات انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 23 أكتوبر 2011، كانت الانحسار السريع للطفرة الحزبية التي شهدتها البلاد خلال الأشهر السابقة، لتتشكل الملامح الأولى للمشهد السياسي الجديد الذّي تميّز بهيمنة حركة النهضة ب89 نائبا، والتي حاولت تعزيز كتلتها البرلمانية عبر التحالف مع كتلتي المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل الديمقراطي من اجل العمل والحريات، الأكثر عددا في المجلس الوطني التأسيسي. في المقابل، لم تكن “المعارضة الرسمية” للترويكا الحاكمة سوى فسيفساء من أحزاب مختلفة المشارب الفكرية، وضعيفة التمثيل في المجلس أو الشارع على حدّ سواء.
رغم مرور البلاد خلال السنة من الأولى من حكم الترويكا بالعديد من الإضطرابات الأمنية والسياسية، على غرار أحداث بوسالم وسليانة. ورغم تحميل الحكومة المعارضة اليسارية بالخصوص والاتحاد العام التونسي للشغل مسؤولية تلك الأحداث، إلاّ أن التحركات الشعبية كانت على أرض الواقع نتاجا لاستمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وضيقا من التعاطي السياسي مع المطالب المرفوعة منذ ديسمبر 2010.
بداية تشكيل قوى معارضة تنافس الترويكا الحاكمة كانت مع بداية شهر جوان 2012، مع اعلان رئيس الحكومة الانتقالية الأسبق الباجي قائد السبسي عن تأسيس حزب نداء تونس. وقد بدا واضحا أن الحزب الجديد جاء ليعدّل كفة الميزان السياسي التّي مالت بوضوح لصالح حركة النهضة. التنافر كانت السمة المميّزة في العلاقة بين الحزبين، فالباجي قائد السبسي أعلن عند تأسيس حزبه الجديد حينها أنّ حركة النهضة الإسلامية ومشروعه السياسي “خطّان متوازيان لا يلتقيان”. الردّ جاء سريعا من رئيس حركة النهضة، راشد الغنّوشي الذي اتهّم حزب نداء تونس بتوفير غطاء جديد لعودة رموز النظام السابق، بل ذهب ليعتبرهم أخطر من التيارات السلفية والجهاديّة التي بدأت تخرج من قمقمها في تلك الفترة.
الأحزاب القومية واليسارية بدورها وجدت نفسها بين خيارين، إما تشكيل جبهة عمل مشترك، أو الاندثار وسط تنامي الاستقطاب الثنائي بين الحزبين الأقوى. من هنا تأسست الجبهة الشعبية في 7 أكتوبر 2012، لتضم كلّ من حزب العمال، حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، الوطنيون الديمقراطيون، حزب النضال التقدمي، حزب الطليعة العربي الديمقراطي، حركة البعث بتونس، رابطة اليسار العمالي، حزب تونس الخضراء، الجبهة الشعبية الوحدوية، الحزب الشعبي للحرية والتقدّم، حزب القطب وأخيرا التيّار الشعبي بقيادة الشهيد محمد البراهمي. وقد أسندت مهمة الناطق باسمها لحمة الهمامي.
اتسمت العلاقة خلال المرحلة الأولى من تأسيس نداء تونس والجبهة الشعبية بالتنافر بين الطرفين، لاختلاف المضامين الفكرية والأهداف الاساسيّة، واعتبار الجبهة الشعبية حزب الباجي قائد السبسي غطاء لعودة البورقيبيين والتجمعيين، إضافة إلى تلاقيه مع حزب النهضة في الرؤية الاقتصادية والتعاطي مع المعطى الاجتماعي.
تتالي إخفاقات حركة النهضة على الصعيد الاقتصادي وتنامي الإرهاب، لعب دورا في تنامي قوة خصميها الرئيسيين، لتتعرّض الترويكا لأول اختبار حقيقي إثر حادثة اغتيال الشهيد شكري بلعيد في 06 فيفري 2013، وهو ما أجبر الائتلاف الحاكم على تغيير رئيس الحكومة بعد موجة من التحركات الاحتجاجية العنيفة وإعلان الإضراب العام في البلاد، ليكون اغتيال الشهيد محمد البراهمي في 25 جويلية من نفس السنة رصاصة الرحمة التي أنهت حكم حركة النهضة وحلفاءها.
التقاطع السياسي في ساحة باردو
كانت ضلال رابعة تخيّم على المشهد التونسي حين أنهت 11 رصاصة حياة الشهيد محمد البراهمي النائب عن الجبهة الشعبية في المجلس الوطني التأسيسي. حادثة أثارت موجة من الغضب الشعبيّ الذّي تصاعد ليبلغ أوجّه في اعتصام باردو عندما احتشد عشرات الآلاف من التونسيّين المناهضين لحكم حركة النهضة تحت مسمّى اعتصام الرحيل للمطالبة بإسقاط الحكومة. حزب نداء تونس الذّي كان يبحث عن فرصة لتحقيق شرعية التواجد في معسكر المعارضة، لم يجد فرصة أفضل من المتاحة حينها لإقناع الجبهة الشعبية بتحالف تكتيكي ضدّ خصم موحد والاستفادة من قدراته التعبوية.
إغراء لم يصمد امامه قادة الجبهة كثيرا لينبثق ما عُرف بجبهة الإنقاذ الوطني التّي ضمت بالإضافة إلى الخصمين الأساسيين، طيفا من الأحزاب المعارضة كحزب نجيب الشابي الذي تغير اسمه من الديمقراطي التقدّمي إلى الحزب الجمهوري والتجديد الذي تحوّل إلى حزب المسار وحزب آفاق تونس القادم حديثا إلى الساحة السياسية، بالإضافة إلى توطيد العلاقة مع الاتحاد العام التونسيّ للشغل وحالة الوفاق مع منظّمة الأعراف. هذه الظروف وضعت المعسكر الثاني في موقع قوّة أمام خصم خسر الكثير من التأييد الشعبي بعد ارتكابه أخطاء كارثيّة طوال فترة حكمه. ممّا أسفر في النهاية عن خروج حركة النهضة من الحكم، وإن حافظت نسبيّا على ورقة المجلس الوطني التأسيسيّ، وانحسار دورها أمام تعاظم نفوذ الأطراف المكوّنة للحوار الوطنيّ وإمساكها بزمام الأمور فيما يخصّ تسيير الشأن السياسيّ والمرحلة الانتقاليّة، ممّا خلق ما يشبه المسار الموازي الذّي حيّد إلى حد كبير القنوات الرسميّة والدستورية لتسيير شؤون الدولة.
حركة النهضة لم تكن الخاسر الوحيد من اعتصام باردو، فبينما اشتدّت حدّة الاستقطاب الثنائي، وجد بقية مكونات جبهة الإنقاذ أنفسهم شيئا فشيئا خارج مسار تشكيل المستقبل السياسي للمرحلة اللاحقة بعد لقاء باريس السري بين الباجي قائد السبسي وراشد الغنوشي.
أكتوبر 2014: لكلّ مقام مقال
لم تكن حرب الاستقطاب خلال الحملات الانتخابيّة أواخر سنة 2014، سوى الحلقة الأخيرة من مسلسل الحرب المفتوحة بين الشيخين. النهضة التي سارعت إلى الاعتراف بفوز الباجي قائد السبسي بمنصب رئيس الجمهورية، سارت بنفس الخطى نحو تأسيس حكومة إئتلافية بدعوة من حزب نداء تونس. ليطوي الشيخان مؤقتّا صفحة من العداوة الدامية. ورغم أنّ حركة النهضة لم تستطع الحصول على حقائب سياديّة في الحكومة الأولى لحبيب الصيد، إلا أنها تمكنت بفضل الصراع الذّي نشب داخل حزب نداء تونس من قلب موازين القوى داخل مجلس النواب.
اتفاق الشيخين، فرض إعادة ترتيب التحالفات في صفوف المعارضة، خصوصا الجبهة الشعبية وقوى اقلّ حضورا على غرار التيار الديمقراطي وعدد من المستقلّين. الأقلية المعارضة التي بدأت مشتّتة القوى أمام الواقع الجديد الذي فرضه التحالف بين الحزبين الأكثر تمثيلا في البرلمان من ثم الحكومة الائتلافية التي ضمت قوى أخرى على غرار آفاق تونس والاتحاد الوطني الحرّ، استفادت من الدرس الأوّل الذّي أدّى إلى استبعاد النائبة عن الجبهة الشعبية مباركة عواينية البراهمي من منصب النائب الثاني لرئيس مجلس النواب لصالح اسم دون تاريخ يذكر، فوزية بن فضّة الشعار عن الاتحاد الوطني الحرّ. هذه الحادثة دفعت أطياف المعارضة لتشكيل ما يشبه التحالف الضمني ضدّ الأغلبية المطلقة للتحالف الحاكم تحت قبة مجلس النواب، والذّي أدى إلى تسريع المصادقة على عدد من القوانين ذات الطابع الاقتصاديّ على غرار رسملة البنوك العمومية واستقلالية البنك المركزي وقانون اصلاح المؤسسات المالية والبنكية، في خطوة تمثّل امتدادا للخيارات الاقتصادية والاجتماعية للحكومات السابقة. وقد نجح هذا التعاون إن صحّ التعبير في إيقاف تمرير قانون المصالحة ضمن ما يعرف بقضية الفصل 61 من قانون المالية.
الاتحاد العام التونسي للشغل: رمّانة الميزان
“أكثر من نقابة كلاسيكيّة وشيء آخر غير حزب سياسي”، هو التعريف الذي استخدمته الباحثة الاجتماعية هالة اليوسفي في كتابها “اتّحاد الشغل، قصّة شغَف تونسيّة”. ربّما تكون هذه الجملة أقرب توصيف لهذا الهيكل النقابي الذّي لعب أدوارا تاريخيّة خلال سبعين سنة تقريبا منذ تأسيسه. إذ لم يكتف هذا الأخير بالشأن النقابيّ، بل خاضت معترك السياسة في كلّ مرحلة تاريخية، بدأ من الاستعمار، إلى المراوحة بين مهادنة ومعارضة الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال. تماما كما الأحزاب السياسيّة، عرف الاتحاد العام التونسي للشغل تضييقا من نظام بن علي ومحاصرة لمقرّاته واعتقالات طالت مناضليه.
هذه المنظّمة تحوّلت في ظلّ سياسة القمع وتحجير العمل السياسي في العلن إلى مظلّة للنشاط السياسي ضمن الأطر النقابيّة. هذا الدور تجلّى بشكل واضح في دور النقابيين القاعديين خلال موجة الاحتجاجات في مختلف الولايات بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. إذ مثّل مقرات الاتحاد العام التونسي للشغل نقاط تجمّع للتظاهرات، ولعب منتسبوه دور التأطير والتوجيه خلال تلك المرحلة، لتتوّج تلك الاحتجاجات الجهوية بإعلان الإضراب العام في صفاقس في 12 جانفي 2011 وتونس العاصمة في اليوم الموالي.
دور الاتحاد العام التونسي للشغل لم يتوّقف بعد إزاحة بن علي عن الحكم. بل دفعته المرحلة اللاحقة إلى الانغماس بشكل مؤثر في الشأن السياسيّ، وهو ما جعله مستهدفا من حكومة الترويكا واتهامه بدعم الأحزاب المعارضة، اليسارية بالخصوص، لتتوّج الحملات الإعلامية الممنهجة بالاعتداء على المقر المركزي الاتحاد في 05 ديسمبر 2012.
وقد عانى الإتحاد العام التونسي للشغل من حملات التشويه والتشكيك في الدور الذّي يلعبه نتيجة انخراطه في الشأن السياسيّ. ولكنّه فرض نفسه كلاعب أساسيّ في المعادلة السياسيّة منذ أن طُرح خيار الحوار الوطنيّ لإيجاد بديل لحكومة عليّ العريّض.
بعد تعيين حكومة مهدي جمعة، وأمام تعاظم نفوذ منظّمة الأعراف، انحسر دور الإتحاد العام التونسي للشغل الذّي تمّ تحييده بشكل شبه كلّي عن الشأن السياسيّ وإرهاقه في معارك كثيرة، بالإضافة إلى توريطه في ترشيح رئيس الحكومة الحاليّ، ليجدا نفسه “مجبرا” على التحالف مع حكومة كان شريكا في تنصيبها، ومحرجا من أن تفشل هذه الحكومة عند أوّل حراك نقابي أو احتجاج إجتماعي، بالإضافة إلى المناخ العام الرافض لهذا الحراك في ظلّ سياسة الترهيب الاقتصاديّ و علوية المعركة ضدّ الإرهاب.
وقد حاول الاتحاد العام التونسيّ للشغل في تلك الفترة الوقوف في وجه ما حاولت منظّمة الأعراف وحكومة مهدي جمعة تمريره خلال الفترة الانتقاليّة من إصلاحات جذريّة خصوصا فيما يتعلّق بالقطاع العموميّ.
بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية، انشغل الاتحاد العام التونسي للشغل خلال الفترة التي تلت تشكيل حكومة الحبيب الصيد بملفّ الترفيع في الأجور في القطاع العام عبر سلسلة من الجلسات والاضرابات القطاعيّة التي فاقت 150 إضرابا منذ بداية 2015 بحسب وزارة الشؤون الاجتماعيّة.
ماراطون التفاوض انتهى بتوقيع اتفاق مع الحكومة في 22 سبتمبر 2015 نصّ على الترفيع في أجور العاملين في الوظيفة العمومية والقطاع العمومي للسنوات الثلاث المقبلة. ولكن المنظّمة النقابية وجدت نفسها مرّة أخرى في قلب المعركة السياسية إبان التحركات الاحتجاجيّة التي شهدتها أغلب الجهات في شهر جانفي الفارط، بل ولم يتخل عن دوره في دعم الحراك الاحتجاجي “مانيش مسامح” ضدّ مشروع قانون المصالحة الاقتصاديّة. أما خلال الأزمة السياسية التي عصفت بحكومة الحبيب الصيد، فقد انخرط الاتحاد العام التونسي للشغل في مشاورات حكومة الوحدة الوطنية وكان من بين الموقعين على اتفاق قرطاج. لكن هذا الأخير سرعان ما حسم موقفه من حكومة يوسف الشاهد الجديدة ليعلن صراحة معارضته للنوايا الحكومية التي أعلن عنها الشاهد في التعاطي مع الأزمة الاقتصادية والمؤسسات العمومية بالخصوص. في موقف يتناغم مع موقف المعارضة التي لطالما مثّل لها الاتحاد جدار الدفاع الأخير.
جيل جديد يكسر القواعد
عرف مسار الأحداث بعد 14 جانفي 2011، انحرافا واضحا عن المطالب والشعارات الكبرى التي رفعها المحتجون منذ 17 ديسمبر 2010. ما يمكن توصيفه بانتكاسة المسار الثوري وتحوّل الصراع السياسيّ حول المناصب، خلق ما يشبه حالة الإحباط العام وساهم في دفع مجموعات شبابيّة إلى التفكير في بديل عن الأطياف السياسية يكون الحامل الحقيقي لمشروعهم الفكري والسياسي والاجتماعي. هذا المناخ السياسي والحزبي أفرز بعد سنة 2011 مجموعات شبابية في شكل تنظيمات اختلفت هيكلتها وخلفياتها الإيديولوجية، وقد استطاعت نسبيا أن تفرض وجودها في الساحة الطلابية بالخصوص وفي التحركات الميدانية والنشاط الثقافيّ.
إلاّ أنّ العوائق الاقتصادية والتعتيم الإعلامي وحدّة التجاذب السياسيّ، أدّى في نهاية المطاف إلى انحسار حضورها شيئا فشيئا إثر تغيّر الخارطة السياسية بعد سقوط الترويكا وتقارب الجبهة الشعبية ونداء تونس.
انتخابات 2014، والتحالف الجديد بين أحزاب اليمين، إضافة إلى محدودية قدرات وخيارات المعارضة النيابية، أعطت نفسا جديدا للحراك الشبابي الذي تُوّج بتأسيس “حراك مانيش مسامح” الذّي انطلق في البداية كردّة فعل على مشروع المصالحة الاقتصادية، ولينجح نسبيا في حشد الرأي العام وكسب المؤازرين في مواقع التواصل الاجتماعي وفي الشارع في كلّ الجهات تقريبا.
هذا النجاح في التصدي للمشروع الرئاسي سنة 2015 واجبار الحكومة على تأجيل النظر فيه، دفع هذا الحراك لتثبيت تواجده أكثر من خلال تكثيف حضوره في التحركات الاحتجاجية الاجتماعية، ليتحوّل إلى فاعل جديد على الساحة السياسية، وليجبر المعارضة والسلطة معا على التعاطى معه كأحد القوى الحقيقية في الشارع التونسي.
الجمعيات ومنظّمات المجتمع المدني، كان لها دور فاعل هي الأخرى في التأثير على الشأن السياسي، إذ لعبت أنا يقط وبوصلة وغيرها دورا في اجبار مؤسسات الدولة على اعتماد مبدأ الشفافية إضافة إلى تنظيم حملات ضد التجاوزات في المؤسسات العمومية، ساهمت في الضغط على الحكومة وإحراجها. وإن كانت هذه التجارب ما تزال تتلمّس خطواتها الأولى، فإنّها تشكّل منعرجا في تاريخ المعارضة السياسية وكسرا للنمط الحزبي التقليدي.
ورقة 18 أكتوبر تبقى خالدة في التاريخ السياسي التونسي ، كأول بداية تجربة ديمقراطية في تونس بين احزاب التباين الايديلوجي .. و هي عظمة و قوة تحسب لاحزاب المعارضة في تلك الفترة السوداء في تاريخ البلاد .. منذ 2012 حصل أن ذكرتها في عدة تعاليق .. لكن مع الأسف ، عقيدة الأنا غلبت على الأحزاب بعد الثورة المجيدة ..
مقال جميل .. و إذا أبقى أذكر نقطة إيجابية ثانية منه .. الحديث عن الفاعلين الجدد ، و دورهم في الدفع لدولة الحوكمة الرشيدة و دولة الشفافية .. أنا يقظ ، البوصلة ، …. و غيرهم كثير …..
تحياتي .
#ما نيش مسامح