لئن استبشرت شرائح واسعة من التونسيين بإزاحة كابوس النهضة وأخواتها من الحكم، يوم 25 جويلية 2021، فإن سنتان من الحكم الفردي لقيس سعيد كانت كفيلة بمضاعفة الخيبة وإغراق البلاد في غياهب الفكر المؤامراتي ومستنقع الشعبوية المقيتة.

لئن استبشرت شرائح واسعة من التونسيين بإزاحة كابوس النهضة وأخواتها من الحكم، يوم 25 جويلية 2021، فإن سنتان من الحكم الفردي لقيس سعيد كانت كفيلة بمضاعفة الخيبة وإغراق البلاد في غياهب الفكر المؤامراتي ومستنقع الشعبوية المقيتة.
بين عبارات ”تغيير التركيبة الديموغرافية“، والحل الإنساني لقضية المهاجرين، والتساؤل حول سبب اختيارهم لمدينة صفاقس، اختلطت الأوراق مرة أخرى في قضية الهجرة نحو سواحل أوروبا. ارتباك واحتقان تزامنا مع تعطل امضاء مذكرة التفاهم بين تونس وأوروبا، التي تسعى إلى وقف تدفق المهاجرين إلى شمال المتوسط.
إيطاليا ميلوني الصديقة الأولى لتونس قيس سعيد، تقارب سياسي فرضه واقع ”الحرقة“ المتواصل رغم تباين الأهداف، بين من يريد شرطة حدود بالوكالة ومن يلعب ورقة ”جحافل“ المهاجرين لتحسين شروط التفاوض المالي.
ماهو القاسم المشترك بين كل المواطنين الذين رأوا في أستاذ جامعي مساعد رمزا لهم فانتخبوه؟ وماهو القاسم المشترك بين كل الذين صوتوا للرئيس ترامب والحال أنه ليس أكثر المترشحين دفاعا على طبقاتهم؟ وماهو العامل الجامع بين كل الأوكرانيين الذين وجدوا ضالتهم في ممثل فكاهي يتقمص دور أستاذ تاريخ؟ الأكيد أن العالم يعيش ظاهرة جديدة تغير السائد في الانتخابات والحياة السياسية.
منذ بيان 21 فيفري الرئاسي، تتالت إدانات خطاب الكراهية العنصري لتأخذ أبعادا خطيرة على الاقتصاد التونسي المنهك بطبعه. في المقابل ارتكز الرد الرسمي التونسي على إنكار “العنصرية المزعومة” والحديث عن حملة معروفة مصادرها.
تزامنا مع حملة الملاحقات والإيقافات التي تستهدف المعارضين والنشطاء والنقابيين، أفرز العبث الشعبوي خطابا عنصريّا مقيتا يتماهى مع أبشع النظريات العنصرية الفاشية، في خرق صريح للقوانين المحلية والاتفاقيات الدولية التي أمضتها تونس.
سلسلة من الإيقافات طالت شخصيات ذات تأثير اقتصادي وسياسي، عاش على وقعها الرأي العام منذ نهاية الأسبوع الماضي. إيقافات بشر بها الرئيس بعد نسب المشاركة المتدنية في التشريعيات، لكشف خصومه المتآمرين وإنعاش جماهيره قبل مواجهة تعبئة الاتحاد ومسيراته.
لم تغير نتائج الانتخابات الأخيرة من سلوك السلطة، بل إن نسبة المشاركة الهزيلة في الاقتراع لم تدفعها حتى للوقوف على أسباب العزوف ومقاطعة التونسيين للعملية السياسية الحالية. يواصل قيس سعيد في نفس التمشي الانفرادي الصدامي مستعملا نفس خطاب التخوين واتهام الخصوم بالعمالة والتآمر، غير عابئ بانقسام سياسي غير مسبوق وبأزمة اقتصادية واجتماعية وضعت البلاد على حافة الإفلاس والاحتراب.
بعد ميزانية المجبى التي رفضتها قطاعات واسعة من التونسيين، يتواصل الغموض والعبث في علاقة بالوضع الاقتصادي المتردي. عبث عطل قرض صندوق النقد الدولي كنتيجة حتمية لسياسات العلو الشاهق.
بعد إطلالة القمة الفرنكوفونية وتزامنا مع المنعرج الأخير للانتخابات التشريعية، كثف الرئيس من تحركاته وزياراته الفجئية، مواصلا ترديد الشعارات وتوجيه تحذير أخير، للمرة الألف، للفاسدين والمتلاعبين بقوت التونسيين. ظهور مكثف يأخذ طابع الحملة الانتخابية، لإنقاذ انتخابات تشريعية بقيت خارج دائرة اهتمام الشعب الذي يريد
قد تقود الصدفة آلاف الأشخاص على موقع فايسبوك إلى التعرف على سيرين مرابط المترشحة للانتخابات التشريعية عن دائرة الزهور السيجومي، وذلك بمجرد الانضمام إلى مجموعة مغلقة على فايسبوك أسستها المترشحة في ماي 2015، تضمّ أكثر من 49 ألف عضو، تختصّ في بيع الملابس ومستحضرات تجميل من كندا ومن تركيا. ولكن الصدفة لم تلعب دورها أبدا في ذياع صيتها، خاصة أنها خطت طريقها لتترأس الهيئة التسييرية للنادي الأولمبي للنقل مدة عامين، بداية من نوفمبر 2020، وتكون أول امرأة تترأس فريق الملاسين.
عاد تقليد العنف السياسي بحياء البدايات إلى تونس، فبعد حملات التشويه والسحل الالكتروني لكل من عارض قائد الأمة، بدأت بوادر منع الأحزاب و المنظمات من النشاط باسم ” الشعب يريد ” ولا إرادة فوق إرادة الشعبوية.
لم تكن مشاهد سطو بعض المواطنين على شاحنات نقل السميد في عدة أحياء من العاصمة والمدن الداخلية مجرد حدث عابر على هامش الأحداث الوطنية، ولا أمرا مستهجنا على خلاف العادة في مواقف نهب مماثلة كتلك التي حصلت أثناء ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي.
لا تكاد خطابات الرئيس قيس سعيد تخلو من عبارة “الشعب يريد” لإضفاء المشروعية الشعبية على القرارات التي يتخذها أو التي ينوي تطبيقها. بعض هذه القرارات تسببت في اندلاع احتجاجات جوبهت بقوة البوليس أو بالتجاهل والمماطلة.
تقوم فكرة الشعبوية بالأساس على التضادّ بين النُّخبة من ناحية، والشعب من ناحية أخرى. اعتمد قيس سعيّد في انتخابات 2019 على شعار “الشعب يريد” وواصل استثماره في هذه الفكرة منذ اتخاذ التدابير الاستثنائية في 25 جويلية. وهو إلى الآن يطرح نفسه كبديل عن النُّخبة الحاكمة منذ 2011، بصفته محافظا على قيم الثّورة، ومثالا للاستقامة ونظافة اليد. في هذا الإطار، حاورت نواة الباحث في العلوم السياسية محمد الصحبي الخلفاوي للوقوف على أهمّ مواصفات “الزعيم الشعبوي” وإلى أيّ مدى يمكن لهذا الفكر أن يتحوّل إلى رداء لحكم سلطوي على المدى البعيد.
أصدر الائتلاف المدني من أجل الحريات الفردية تقريره السنوي حول وضع الحريّات الفردية في تونس يوم 30 جوان. تحت عنوان “سنة كل التهديدات”، رصد التقرير الانتهاكات العديدة التي سجّلت هذه السنة والتي كان ضحيتها العديد من الفئات في تونس. وقد أشار التقرير إلى أن هذه التهديدات هي امتداد لما شهدته البلاد من تصاعد للخطابات الشعبوية إلا أنها تكثّفت في ظلّ جائحة كورونا وسياسة الدولة القمعية. للوقوف حول تفاصيل التقرير، حاورت نواة أستاذ القانون ومؤسس الجمعية التونسية للدفاع عن الحريات الفردية، المكوّنة للإتلاف، وحيد الفرشيشي.
قرّرت نقابة الصحفيين مؤخرا مقاطعة عبير موسي بعد أن قاطعت منذ مدة سيف الدين مخلوف وائتلاف الكرامة. ليس لهذه المقاطعة أهمية وظيفية كبيرة، باعتبار أن الشخصيتين المعنيتين لا تعتمدان كثيرا على الإعلام التقليدي. لكن للمقاطعة أهمية رمزية كبيرة، فهي تمثّل إدانة وموقفا مبدئيا أكثر منها حرمانا من التعبير والإعلام، فعبير موسي وسيف الدين مخلوف يمكن اعتبارهما نجوم اللّايف على فايسبوك. ولكن لماذا تلجأ كلتا الشخصيتين إلى استعمال فايسبوك أكثر من الحضور في الميديا التقليدية، حتى قبل قرار نقابة الصحفيين بالمقاطعة؟
كي نفهم شعبوية قيس سعيد لا بد من وعي الديمقراطية في تونس من حيث إنزياحاتها الممكنة التي تتيح التلاعب، و التزييف و كل أشكال الالتباس و عدم الاكتمال. فالديمقراطية تظل دائما صيرورة غير مكتملة و هذا ما يجعل الشعبوية مكونا أساسيا من مكونات الديمقراطية و منتج من منتجاتها و ليس مجرد ”وباء خارجي“ يتهددها. إنها ”عدو حميمي للديمقراطية“ و قفاها المنحرف، حيث السعي المستمر للإنخراط الفوري و الكلي للقواعد الشعبية و الدفاع الدائم عن سيادة الشعب دون حماية الحريات الفردية. يبدو قيس سعيد على هذا النحو ”عدوا حميميا للديمقراطية“ التونسية في ظل تمدد التيار الديني و المحافظ برلمانيا و استمرار نهج الخيارات الاقتصادية الليبرالية.