travail-liberte-dignite-tunisie

كانت سنة 2015 بامتياز سنة معارك الحقوق الاقتصاديّة والإجتماعيّة من أجل الكشف عن الفساد والدفاع عن الحقوق النقابيّة والإجتماعيّة والتصدّي لخرق القوانين الدستوريّة، ومعارك الحريات الفرديّة والعامّة أمام انتهاكات أمنية متزايدة ضدّ المواطنين والصحافيّين بذريعة الحرب على الإرهاب ومحاولات متواصلة للتقليص من مساحة الحريّة، أهمّ مكاسب الثورة.

الحقّ في التشغيل، تحسين الأجور، تحسين ظروف العمل، المطالبة بالكشف عن طرق إدارة الثروات الطبيعيّة في البلاد، المحاسبة للفاسدين في المجال الاقتصادي، كانت عناوين كبرى لمعارك اختلفت طرق إداراتها وأطرافها، ولكنّ أهدافها كانت العدالة الإجتماعيّة وإنصاف الشغّيلة ومحاسبة الفاسدين. سنة 2015 تميّزت بطغيان الجانب الاقتصادي والإجتماعيّ في المختلف التحرّكات التيّ دارت في أكثر من ساحة وبين أكثر من طرف، في الشارع، في مجلس النوّاب وعلى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، استطاعت هذه القضايا أن تجد عددا من المساندين لها وأن تفرض على الحكومة نقاشات جديّة حولها.

وينو البترول : الفيسبوك يشعل الشارع

الفايسبوك، كان مسرحا لانطلاق عديد المعارك ذات الطابع الاقتصاديّ خلال سنة 2015. فخلال منتصف شهر ماي الفارط انطلقت حملة على مواقع التواصل الاجتماعيّ تحت شعار “وينو البترول”. هذا التحرّك الافتراضيّ سرعان ما لاقى انتشارا واسعا، ليتطوّر إلى تجمّعات احتجاجيّة في قلب العاصمة التونسيّة وفي الجهات، مطالبة بالكشف عن حقيقة الثروات الطبيعيّة في تونس وكيفيّة استغلالها وإدارتها.

الحكومة من جهتها اعتبرت تلك الحملة في البداية مجرّد دعابة كما صرّح بذلك الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية معز السيناوي، ولكنّ تواصل الحملة واستقطابها لآلاف المساندين دفع بالحكومة إلى اصدار تكذيب رسميّ للأرقام الصادرة عن الحملة كما اعتبرها حزب نداء تونس حملة لمغالطة الرأي العام معتبرا أنّ الهدف الحقيقيّ منها إثارة الفتنة والنعرات الجهويّة. لتنتهي الحملة التي امتدت لأسابيع دون أن تسفر عن نتائج ملموسة ولكنّها أثارت لأوّل مرّة وبشكل جدي وواسع مسألة استغلال الثروات الباطنيّة.

في أوائل الأسبوع الثاني من شهر جويليّة، خرج رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي بمشروع للمصالحة الوطنيّة، بشقيّها السياسيّ والإقتصاديّ. ردّة الفعل الأولى بدأت على الفايسبوك عبر حملة نظّمها عدد من نشطاء المجتمع المدني تحت عنوان “مانيش مسامح”.

اعتبر هؤلاء أنّ مشروع القانون الذّي طرحته رئاسة الجمهوريّة يهدف إلى تمكين الفاسدين من التهرب من المحاسبة والتعتيم على آليات الفساد وخدمة مصالح لوبيات المال والسياسة. يوم 27 أوت 2015 خرجت الحملة من المجال الإفتراضيّ إلى شوارع العاصمة لتتواصل طيلة ثلاثة أسابيع وتمتدّ إلى 18 ولاية من شمال البلاد إلى جنوبها. تحرّكات المجتمع المدني واجهت عمليات قمع ومحاصرة وإيقافات طالت عددا من الشباب في مختلف الجهات لكنّها انتهت بإجبار رئاسة الجمهوريّة على تعليق المشروع.

معارك الالتفاف على الدستور في مجلس النواب

المعارك الاقتصاديّة خلال سنة 2015، لم تقتصر على الشارع أو صفحات المواقع الاجتماعيّة، بل انتقلت إلى قبّة مجلس النوّاب،. أحد أهمّ القضايا التي طرحت للنقاش كانت شركة كوتوزال واستغلالها للملح التونسيّ. حيث صرّح وزير الصناعة لدى المصادقة على ميزانيّة وزارته أوائل شهر ديسمبر نيّة الوزارة إيقاف التعامل مع هذه الشركة، وذلك بعد عدّة مداخلات للنواب كان أبرزها للنائبة سامية عبّو والتّي اعتبرت عقد الاستغلال استعماريا بامتياز. القضيّة اثارت جدلا واسعا على الصعيد الإعلامي والسياسيّ خصوصا بعد تراجع الوزير عن تصريحاته الأولى وردّ الشركة المعنيّة التي اعتبرت أنّها تعمل في تونس وفق عقد رسميّ برضا الحكومات المتعاقبة.

أيام قليلة أخرى، ويعود الصخب إلى مجلس النواب عند مناقشة الأحكام العامّة لميزانيّة 2016، حيث تشنّجت الأجواء مع تزايد اعتراضات نواب المعارضة على تمرير فصول اعتبروها التفافا على الدستور ومحاولة لتمرير قانون المصالحة الاقتصاديّة عبر تضمين بعض بنوده في فصول الميزانيّة واتخاذ إجراءات تشجّع على التهرّب الجبائيّ والفساد المالي والاقتصاديّ خصوصا في الفصل 61 الذّي تحوّل إلى الفصل 64 خلال جلسات النقاش.

تعنّت نوّاب الائتلاف الحاكم واصرارهم على تمرير الفصول المثيرة للجدل رغم مقاطعة المعارضة للجلسات العامة والتصويت دفع بهؤلاء للطعن في الفصول 46، 47، 59، 60، 61، 64، 74، 75، 82، و85 من مشروع القانون المذكور لدى الهيئة الوقتيّة لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين يوم الثلاثاء 15 ديسمبر 2015. إثر انعقاد جلسة 22 ديسمبر 2015 للهيئة، قضت هذه الأخيرة بقبول الطعن شكلا ومضمونا وعدم دستورية الفصول 46 و59 و60 و64 و85 من مشروع قانون المالية لسنة 2016 وفصلها عن القانون المذكور وإعادتها لمجلس النواب من أجل المداولة.

معركة الأرض خارج الاهتمام الرسمي

بعيدا عن الأضواء، وخارج حسابات معدّي البرامج، غطّت نواة قضيّة قرية الشويقي في معتمدية طبربة من ولاية منّوبة، حيث تعود أطوار القضيّة إلى أوائل التسعينات، حين قرّرت الدولة تمكين الخواص من استغلال أراضي التعاضديات لحسابهم الخاصّ. مشاكل الأهالي الذّين تحدّثوا إلى نواة تتمثّل فيما اعتبروه كارثة حلّت على القرية عقب تمكين المستثمر فوزي بالأمين من النصيب الأكبر من الأراضي المفوّت فيها، إضافة إلى عدم إيفاء هذا الأخير بالتزاماته ووعوده بتشغيل أبناء القرية

جنوبا في ولاية قبلّي في هنشير جمنة، أرض اخرى كانت محور صراع بين الأهالي و المستغلّين الخوّاص. وتتمثّل تفاصيل القضيّة في تفويت الدولة سنة 2002 لضيعة جمنة للخواص بمعاليم كراء متدنيّة. أهالي المنطقة نجحوا بعد الثورة في استرجاع الضيعة، وعمدوا إلى تسييرها ذاتيا عبر جمعيّة مكوّنة من الأهالي لتثبت حسابات المحاصيل والإنتاج فيما بعد نجاح التجربة. ولكنّ هذه التجربة الرائدة تظلّ مهدّدة بإصرار المتسوغيّن السابقين على استعادة الضيعة خصوصا وأنّ عقود الاستغلال ما تزال سارية المفعول حتّى سنة 2017، إضافة إلى غياب إرادة سياسيّة لإغلاق الملفّ وتسوية وضعيّة الجمعيّة.

قضايا الأراضي الدولي لم تقتصر على الشويقي أو جمنة، إذ شهدت سنة 2015 تحرّكا لفلاحي الضيعات الدولية في 12 أكتوبر 2015 في ساحة القصبة في العاصمة تونس، حيث قدم الفلاّحون من ضيعة حبيب وفطوم ووسيلة (حامة الجريد، ولاية توزر)، ضعية قرية زعفران (دوز الجنوبية، ولاية قبلّي)، ضيعة بوهلال (معتمدية قداش، ولاية توزر) وضيعة زعفرانة بمعتمدية نفطة (ولاية توزر)، إلى جانب ضيعة المُعمّر (المعروفة أيضًا بهنشير ستيل) بجمنة (ولاية قبلّي) للاحتجاج أمام مقر رئاسة الحكومة والمطالبة بأحقّيتهم باستغلال تلك الضيعات من المستثمرين الخواص الذين أهملوها قبل الثورة.

سنة انهاء التوافق المرّ بين إتحاد الشغل و نقابة الأعراف

التحرّكات النقابيّة والعمّالية تواصلت طيلة سنة 2015 للمطالبة بعدد من الحقوق الاقتصاديّة والإجتماعيّة، لعلّ أهمّها الإضراب العام في صفاقس، الذّي جاء كردّ على فشل المفاوضات حول الترفيع في أجور القطاع الخاصّ. حيث أبدت منظّمة الأعراف تجاهلها لدعوات الحوار الجديّ مع الاتحاد العام التونسي للشغل الذّي ردّ بدوره بإعلان إضرابات جهوية لعمال المؤسسات الخاصّة، وهو ما تمّ بالفعل في صفاقس 20 أكتوبر. إلا أنّ العمليّة الإرهابية في شارع محمد الخامس أجبرت قيادة الاتحاد على تأجيل الإضرابات والدعوة للعودة إلى طاولة الحوار مراعاة للظرف الأمني الصعب. ولكن الأمور ما تزال تسير نحو مزيد التصعيد مع تواصل سياسة الصمم الإرادي لمنظّمة الأعراف والاستخفاف بمطالب عمال و موظّفي القطاع الخاصّ وهياكلهم النقابيّة.

التحرّكات النقابيّة لم تتوقّف عند القطاع الخاصّ، بل شملت الوظيفة العموميّة، حيث شهدت سنة 2015 إضرابات في العديد من القطاعات كالتربية بجميع مستوياتها والصحة والتعليم العالي، ولتصل الحصيلة خلال الأشهر الستّة الأولى من السنة 164 إضرابا.

بدأت إضرابات قطاع التربية منذ الشهر الثاني لبداية سنة 2015 حين نفذ مدرسو التعليم الثانوي إضرابا بيومين تنديدا بتأجيل النظر في مطالبهم. نسبة نجاح الاضراب تجاوزت حسب مصادر نقابيّة 97 % في مختلف المدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية والنموذجية بكامل تراب الجمهورية.

دخل المعلّمون في اضراب عام يومي 26 و27 ماي حقق نسبة نجاح بلغت 96%. كما تحرّك المعلّمون مرّة أخرى في 11 سبتمبر 2015 أمام مقر وزارة التربية عبر وقفة احتجاجية تحت شعار “يوم غضب المعلمين” للمطالبة بتسريع تنفيذ وتطبيق الاتفاقيات المبرمة سابقا مع وزارة التربية. أما في 13 و14 اكتوبر فقد نفّذ المعلّمون اضرابا عن العمل بمقر النقابة العامة للتعليم الابتدائي بساحة محمد علي للمطالبة بتمتيعهم بترقيتين استثنائيتين على غرار نظرائهم في التعليم الثانوي. لتنتهي سنة 2015 بإمضاء النقابة العامة للتعليم الأساسي محضر اتفاق مع وزارة التربية يقضي بالاستجابة إلى أغلب مطالب المعلمين في 7 ديسمبر المنقضي.

الجهات المحرومة لم تهدأ

رغم الوعود الانتخابيّة، إلاّ أنّ الجهات المهمشّة والمحرومة من شمال البلاد إلى جنوبها لم تلمس تغييرا يذكر خلال سنة من تولّي حكومة الحبيب الصيد مقاليد الحكم. هذا اليأس من جديّة الحكّام الجدد في معالجة الاستحقاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة العاجلة لأهالي تلك الجهات، دفع هؤلاء إلى التحرّك والإحتجاج خلال سنة 2015 في أكثر من مدينة وقرية.

تنوّعت هذه الاحتجاجات بين إضرابات الجوع والاحتجاج والتظاهر والاعتصامات وإغلاق الطرقات في قفصة والفوّار والصخيرة. إضافة إلى إضرابات الجوع المتواصلة منذ شهر أفريل لقدماء اتحاد الطلبة المفروزين أمنيا وآخرها اعتصام “جوعنا من فرزكم” الذّي ينهي دخل أسبوعه الثالث مع نهاية سنة 2015 أمام إصرار الحكومة والجهات الرسمية على مجابهة المطالب والاحتجاجات بالقمع او التجاهل.

وقد استأثرت المطالب الاقتصادية والاجتماعيّة بما يزيد عن 70% من جملة التحرّكات الاحتجاجيّة التي شهدتها الجهات الداخليّة من البلاد بحسب عدد من تقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والإجتماعيّة. إذ رصد التقرير الأخير للمنتدى على سبيل المثال أكثر من 280 تحرّكا احتجاجيّا في الجهات من جملة 340 خلال شهر نوفمبر فقط.