اختار رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي قصر المؤتمرات هذه المرّة، ليلقي خطابه “المنتظر” ويتناول طيلة ساعة تقريبا عددا من القضايا الشائكة التي تشكّل المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تونس خلال الفترة الراهنة. خطاب 10 ماي 2017، الذّي عملت وسائل الإعلام على التبشير بما بعده، لم يخرج في مضمونه عن الخطابات السابقة لرئيس الجمهورية ولم يكسر القاعدة سوى باتخاذ قرار تكليف الجيش حماية مصادر الموارد الطبيعيّة من فسفاط ونفط. ولكنّه في الآن ذاته لم يغفل عن توجيه رسائل تعكس طبيعة فهمه وتعاطيه مع الحراك السياسي والاجتماعيّ.

مشروع قانون المصالحة، دعوات إسقاط الحكومة، الحراك الاجتماعي والأزمة الاقتصاديّة مثّلت أهمّ محاور كلمة الرئيس الذّي حام حول الأزمات دون أن يقدّم أجوبة للخروج منها.

الشاهد سيبقى وإن فشل…

الرئيس الذّي نصّب نفسه راعي الديمقراطيّة منذ الكلمات الأولى لخطابه، لم يخف قلقه ممّا اعتبره تهديدات تحوم حول المسار الديمقراطي. ودون إطالة انتقل هذا الأخير ليخصّص جزء مهمّا من كلمته للحديث عن التجاذبات السياسيّة ودعوات اسقاط الحكومة وموقفه من المعارضة التي قاطعت خطابه اليوم في قصر المؤتمرات. إقرار رئيس الجمهوريّة بفشل الحكومة حتّى هذه اللحظة في إدارة الملّفات الحارقة على جميع الأصعدة، صاحبها تمسّكه بيوسف الشاهد وما بقي من فريقه الحكوميّ الذّي كان مهندس وصوله إلى السلطة. إذ أعلن رفضه التام لمناقشة مصير الحكومة خارج إطار مجلس النوّاب. رسالة واضحة ردّا على دعوة الأمين العام لحزب مشروع تونس محسن مرزوق إلى إقالة الفريق الحكومي الحالي وتكوين “حكومة كفاءات وطنية”. من جهة أخرى انتقد رئيس الجمهورية كلّا من الجبهة الشعبية والتيّار الديمقراطي دون تسميتهما، واللّذان هاجمهما في أكثر من خطاب سابق، في موقف يعكس إصرار الرئيس على استثناء طيف من المعارضة لا يتماشى مع اختياراته السياسية والاقتصاديّة التي جمعته مع “خصوم” آخرين.

 قانون المصالحة: منطق المساومة وتجريم المعارضة من خارج البرلمان

مشروع قانون المصالحة الذّي جاء بمبادرة رئاسيّة في جويلية 2015، مثّل أحد أبرز محاور خطاب رئيس الجمهوريّة اليوم. رغم تعطيل تمرير هذا المشروع في مناسبتين، إلاّ أنّ الباجي قائد السبسي ما يزال متمّسكا بمبادرته للالتفاف على مسار العدالة الانتقاليّة وتبييض الفاسدين. بالاعتماد على الترغيب والوعود بعودة عشرات المليارات تارة، والترهيب من ارتدادات تعطيل رسكلة الفاسدين طورا، راوح الرئيس اليوم في محاولات الردّ على معارضي مشروع قانون المصالحة، وأكّد ضمنيّا ما تتعرّض له الدولة من ابتزاز وضغط عندما تحدّث عن تعطّل عشرات مشاريع الاستثمار نتيجة تلكؤ الإدارة في تنفيذها “خوفا من المسائلة” حسب تعبيره والتي لا تخرج عن نطاق المساومة ولوي ذراع الرافضين لمشروع القانون. إيجاد حلّ للوضع الاجتماعي المتأزّم، مرتبط بإيقاف تدهور الوضع الاقتصاديّ. مقاربة لا تستقيم بحسب رئاسة الجمهورية دون المصادقة على مشروع قانون المصالحة الوطنيّة والاقتصاديّة. أي بمعنى آخر دون ترضية الفاسدين وتطمينهم على أموالهم وافلاتهم من المحاسبة والعقاب.

من جهة أخرى اعتبر رئيس الجمهورية الدعوة للخروج إلى الشارع والتجييش ضد مبادرته، أساليب لا تساهم في تدعيم المسار الديمقراطي بحسب وجهة نظره. بل الأجدر ربّما الاكتفاء بالنقد والتسليم لمنطق الاستقواء بالأغلبية البرلمانية للائتلاف الحاكم التّي يعوّل عليها هذا الأخير لتمرير مشروع القانون المذكور.

الحراك الاجتماعي والأزمة الإقتصاديّة: الصبر أو مواجهة الجيش

لا تكمن عوامل الأزمة الاقتصادية والاحتقان الاجتماعيّ في الفشل في إيجاد حلول حقيقيّة وجذرية لمعضلة البطالة، والتنمية الجهوية، وتراجع الاستثمار واستشراء الفساد وتدهور الخدمات الأساسيّة. بل يعود السبب من وجهة نظر رئيس الجمهوريّة، لعدم قدرة هذه الحكومة المضي قدما في تطبيق القانون بصرامة ضد التحركات الاحتجاجية التي أسهمت في التقليص من الموارد المالية للدولة ودفعتها للجوء إلى هيئات النقد الدولية للاقتراض. الرئيس أشار مباشرة في تحميل المسؤوليات إلى تعطيل انتاج الفسفاط وتنامي الحراك الاحتجاجي في العديد من ولايات البلاد و فشل زيارة الشاهد إلى تطاوين وتواصل إعتصام الكامور.

فقط اكتفى رئيس الجمهورية بموقع واحد لتبرير فشل الحكومة على المستوى الاقتصادي ولم يجد من خيارات سوى إقحام الجيش لمواجهة تنامي الغضب الشعبي في تطاوين وقفصة وغيرها من الجهات التي قد تكون مشمولة بقرار تكليف الجيش حماية مصادر إنتاج الثروات الباطنيّة. الرئيس لم يكتف بإعلان قراره هذا، بل مضى ليهدّد المحتجّين بعواقب مواجهة المؤسسة العسكريّة التي “تختلف في تعاملها مع الاحتجاجات عن المؤسّسة الأمنية” بحسب تعبيره.

المناطق المتاخمة لمناجم الفسفاط، وأحواض الملح وآبار النفط والغاز، والتي عانت طيلة سنوات الإستعمار الفرنسي من “العسكرة” والإستغلال، ستجد نفسها مرّة أخرى مسيّجة بقرار رئاسي لم يجد غير الآليات العسكرية ليردّ على مطالب المحتجّين ولم يبحث عن خيارات أخرى غير الهروب من مناقشة الأسباب الجذريّة لحالة الاحتقان والغضب الشعبي من استمرار الضيم الاقتصادي والاجتماعي وانعدام الشفافيّة في التعاطي مع ملفّ الثروات الطبيعيّة وعقود استغلالها.

بين التلعثم في استحضار الأسماء، وخلط رهيب للمفاهيم، وإصرار على استحضار أرواح الموتى والعجز عن تكوين جمل مفيدة، تنقّل رئيس الجمهوريّة من موضوع لآخر طيلة ساعة تقريبا ليمرّر الرسائل لأكثر من طرف. لكنّ الثابت أنّ الباجي قائد السبسي لا ينوي تحت أيّ ظرف أن يسحب ظلال قرطاج عن دوائر الدولة التي يحاول تكييفها وفق منظوره الخاص للمفاهيم وقراءته الأحادية للخارطة السياسيّة التي تقصي من حاد عن نصّه. في المقابل، وتزامنا مع خطابه، أمضى أكثر من 30 حزبا سياسي وجمعيات ومنظّمات مجتمع مدني بلاغا دعوا من خلاله إلى التظاهر ضد مشروع قانون المصالحة يوم السبت 13 ماي الجاري.