“لا صوت يعلو فوق صوت المعركة” هكذا صرّح رئيس الحكومة مهدي جمعة عقب العمليّة الإرهابية التي سقط على إثرها 15 جنديا في جبل الشعانبي في أواخر شهر جويليّة الفارط. وهكذا انخرط العديد من المسئولين الحكوميّين والأمنيّين معلنين حربا بلا هوادة على الإرهاب والإرهابيّين بعد أن تجاوز الترهيب مجرّد الوعيد واستعراض العضلات إلى استهداف الأمنيّين والعسكريّين وبدأ المواجهة المسلّحة ضدّ الدولة وأجهزتها.
إنّ التعامل الأمنيّ مع الإرهاب يعد أحد الوسائل الضروريّة للوقوف في وجه التيّارات التي لا تؤمن سوى بالعنف وسيلة لفضّ الخلافات وفرض رؤاها العقائديّة والسياسيّة دون الأخذ بعين الاإعتبار ضرورة احترام اختلاف الآخر والتنوّع المجتمعيّ. ولكنّ تتالي التصريحات والممارسات العنيفة ضدّ المجتمع المدنيّ في سياق هذه الحرب على الإرهاب تطرح بشدّة ضرورة إعادة النظر في طبيعة هذه المعركة وأطرافها وجذورها، والأهمّ انعكاسات هذه الإنتهاكات على نجاح المعركة في تحقيق هدفها الرئيسيّ.
فسقوط مسألة “احترام حقوق الإنسان” و”إعادة ترتيب الأوليّات” لن تخدم المجهود الأمنيّ، ولكنّ ارتداداتها ستغذّي ظاهرة الإرهاب وترسّخ العنف كأداة لحسم الخلافات داخل المجتمع بعد أن يتحوّل هذا الأخير من فعل وردّة فعل إلى لغة وحيدة للتحاور وتنامي النقمة والكراهية بين جميع الأطراف.
الجهاز الأمني وعقيدة ما قبل الثورة
العنف كعقيدة أمنيّة، لم يكن وليد نظام بن عليّ في مواجهة التحرّكات الإحتجاجيّة والانتفاضات الشعبيّة، بل عرفت تونس خلال الحقبة البورقيبيّة مواجهات عنيفة بين القوّات الأمنية والمواطنين خلال محطّات تاريخيّة عديدة، لعلّ أهمّها إضراب 26 جانفي 1978 الذّي أدّى إلى سقوط عشرات الضحايا، وانتفاضة الخبز في فيفري 1984، والتي عرفت صرامة أمنية لم تقلّ عن نظيرتها قبيل 6 سنوات.
هذا ولم يقتصر التعامل الأمنيّ مع التهديدات التي تحيط بالنظام حينذاك بالمواجهة في الشوارع فقط، بل شملت عمليّات الاعتقال العشوائيّة والتعذيب في السجون ومراكز الإيقاف وحظر نشاط الأحزاب كما حصل مع الحزب الشيوعي التونسي في سبعينات القرن الماضي وحركة الاتجاه الإسلامي في نهاية الثمانينات، بالإضافة إلى التضييق على العمل النقابيّ والطلاّبي وفرض الأمن الجامعيّ والتضييق على الطلبة والنقابيّين وغيرها من الممارسات العنيفة جسديّا ومعنويّا تجاه من يغرّد خارج السرب الدستوري.
العقيدة الأمنيّة لم تتغيّر بعد قدوم الرئيس الجديد حينها زين العابدين بن عليّ، بل ازدادت وتيرة العنف والقمع والتنكيل بشكل شرس ومنظّم واحترافيّ أكثر، إذ بعد سنتين ونيف من وصول هذا الأخير إلى الحكم ومحاولة طمأنة مختلف الأطراف بحسن نواياه، كشّر النظام من جديد عن أنيابه وأعلن حربا مفتوحة تجاه المناوئين لحكمه وأطلق يد الجهاز الأمنيّ للتنكيل بالمعارضين ومحاصرة أي نشاط سياسيّ وثقافيّ خارج إطار الحزب الحاكم.
وقد استعرضت “نواة” في ملفّ سابق الإنتهاكات التي طالت المعارضين والمناوئين لحكم الرئيس السابق ومختلف الأساليب التي اعتمدتها الأجهزة الأمنيّة لمحاصرة المجتمع المدنيّ وترسيخ حالة الخوف والانقماع.
بل وتروي العديد من الشهادات التي تمّ توثيقها حجم التنكيل الذي طال كل من أثار غضب النظام أو حتّى مجرّد شكّه، كما حصل لمجموعة برّاكة الساحل، أو معتقلي حركة الاتجاه الإسلامي والنقابيّين والمناضلين الحقوقيّين كالسيّد عليّ بن سالم وغيرهم ممن رفعوا أصواتهم ضدّ الصمت الذي حاول بن عليّ فرضه.
كما شهدت وفيرة العنف البوليسيّ نسقا تصاعديّا مع سنّ “قانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال” سنة 2003 والذّي تمّ تمريره في ظرف دوليّ انخرطت فيه الولايات المتحدّة الأمريكيّة في حرب عمياء على الحركات الإسلامية المتشدّدة وكلّ ما يمتّ لها بصلة، وطبعا لم يشذّ النظام التونسيّ عن التيّار الأمريكيّ والدوليّ، ليتّخذ من “الحرب على الإرهاب” ذريعة لتسديد ضربات أقوى للمناوئين له ولمزيد التضييق على الحياة السياسيّة والثقافيّة والنقابيّة في البلاد.
حتّى جاءت ضربة النهاية للنظام مع بدأ التحرّكات الإحتجاجية في سيدي بوزيد في 17 ديسمبر 2010 والتي ورغم الوحشيّة التي مارستها قوّات الأمن ضدّ المتظاهرين واستخدام كافة الوسائل لقمعها بدءا بالعصيّ وصولا إلى الرصاص الحيّ، إلاّ أنّها لم تستطع إطالة فترة حكم بن عليّ أكثر من ذلك.
بعد 14 جانفي2011: تغيّرت الأسماء والعقيدة واحدة
الجهاز الأمنيّ الذّي كان الأداة الرئيسيّة في يد بن عليّ لفرض سلطته، لم يغيّر من عقيدته في التعامل مع المجتمع المدنيّ والمواطن التونسيّ رغم الحملات الإعلامية التي سوّقت لمرحلة الأمن الجمهوريّ واحترام المؤسّسة الأمنية لقيم الحريّة والكرامة ودورات التأهيل والتكوين التي خضع لها الأمنيّون.
فخلال تعاقب الحكومات “الانتقاليّة” الخمس بدءا من محمد الغنّوشي مرورا بالباجي قايد السبسي وحمّادي الجبالي وعليّ العريّض وصولا على مهدي جمعة، سُجّلت عودة قويّة للممارسات القمعيّة في مواجهة التحرّكات الإحتجاجيّة والأصوات المناوئة لكلّ حكومة.
فترة محمد الغنّوشي شهدت إجهاض اعتصام القصبة 1 والتعامل بوحشيّة مع الشباب الذّي حاول استكمال المسار الثوريّ بعد أن تفاجأ بتشكيلة أوّل حكومة بعد “الثورة” والتي ضمّت وجوها من النظام السابق، لتعقبها محاولات جديدة لإجهاض اعتصام القصبة 2 عبر الجهاز الأمنيّ تارة وعبر مأجورين ومنحرفين طورا ومن ثمّ أحداث العنف التي تلت تصريحات وزير الداخليّة آنذاك فرحات الراجحي.
وبدورها لم تكن هذه الحكومة الجديدة بقيادة الباجي قائد السبسي استثناء في استكمال سياسة القمع والمواجهة العنيفة مع بعض التحرّكات الإحتجاجيّة التي رأت في تنصيبه رئيسا للحكومة استمرارا للحقبة الماضية كما حدث في شارع الحبيب بورقيبة في رمضان من سنة 2011 بالإضافة إلى التعامل الأمنيّ مع المحتجّين في القصبة والذي عرف “بالقصبة 3”.
كما شهدت أواخر حقبة الباجي قايد السبسي اصدار المرسوم 106 بتاريخ 22 أكتوبر 2011، الذي نصّ على سقوط جريمة التعذيب بالتقادم، وبالتحديد بعد 15 سنة، وهو ما اعتبر من أكبر الانتهاكات التي عرفتهاالمرحلة “الانتقاليّة” كون هذا المرسوم يعطي فرصة لجلاّدي الأمس للهروب من العقاب والمسائلة نتيجة جرائم ارتكبت في حق مئات المواطنين التونسيّين خلال ذروة الحملات الأمنية ضدّ النشطاء السياسيّين والحقوقيّين في أوائل التسعينات من القرن الماضي.
مرحلة ما بعد 23 أكتوبر 2011 والتي شهدت تعاقب ثلاث رؤساء حكومة هم حمّادي الجبالي وعليّ العريّض ومهدي جمعة، فتعتبر واحدة من أسوأ الفترات على الصعيد الحقوقيّ والإنتهاكات الأمنيّة. فخلال فترة تولّي رئيس الحكومة حمّادي الجبالي مقاليد الحكم سجلت المنظّمات الحقوقيّة المحليّة والدوليّة ممارسات عنيفة للجهاز الأمني لعلّ أبرزها قمع المحتجّين في سليانة بواسطة “الرشّ” والذّي خلّف عاهات مستديمة لبعض المحتجّين من قبيل فقدان أحد العينين أو العمى التّام، كما سجّلت الإنتهاكات الأمنيّة والعنف الشديد خلال مظاهرة المعطّلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا في 07 أفريل 2012 بشارع الحبيب بورقيبة وتتواصل الهجمة الأمنية الشرسة خلال إحياء عيد الشهداء في 9 افريل من نفس السنة.
كما سجّلت السجون التونسيّة وفاة سلفيّين معتقلين على خلفيّة اتهامهم بالمشاركة في الهجوم على السفارة الأمريكيّة هما بشير القلّي ومحمد البختي اللذان دخلا في إضراب جوع حتّى الموت احتجاجا على ما اعتبراه ظلما وتجاهلا من السلطات الأمنية لمطالبهما. لينتهي حكم حمّادي الجبالي عقب اغتيال القياديّ في الجبهة الشعبيّة شكري بلعيد وما عقب عمليّة الإغتيال من مواجهات عنيفة بين الأمن والمحتجّين انتهت إلى استقالة الجبالي وتولّي وزير الداخليّة آنذاك عليّ العريّض منصب رئاسة الحكومة.
هذا الأخير واصل نفس النهج الذي اتّبعه خلال تولّيه منصبه السابق في مواجهة التحرّكات الشعبيّة والحراك الاجتماعيّ، وقد سجّل التاريخ حجم العنف المسلّط على المحتجّين عقب اغتيال القيادي الثاني في الجبهة الشعبية محمد البراهمي، إذ أدّت المواجهات بين الأمن والمحتجّين إلى مقتل محمد المفتي في قفصة وجرح 65 متظاهرا بالإضافة إلى العشرات من الإصابات في مختلف المدن التونسيّة والاعتداء على ثلاثة من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي وهم نعمان الفهري، محمد علي نصري ومنجي الرحوي، وكذلك حادث سيارة وحدات التدخل التي قامت بدهس أحد الشبان المتظاهرين بساحة باردو. كما سجّلت تلك الفترة سجن مغنّي الراب “ولد الكانز” بتهمة الشتم والقذف ووفاة وليد دنقير أثناء التحقيقات بعد أن ادعت السلطات الأمنية مقتله اثر محاولته الهروب ولكن صور جثمانه أظهرت آثار التعذيب الجسدي بالإضافة إلى استمرار مظلمة سامي فرحات تلميذ الباكالوريا الذي ما يزال رهن الاعتقال دون محاكمة منذ أكثر من سنة بتهمة حرق مقرّ النهضة خلال المظاهرات في ولاية قفصة بعد اغتيال الشهيد شكري بلعيد.
أمّا رئيس حكومة التوافق الوطني الجديد فلم يشذّ عن ممارسات سابقيه على المستوى الحقوقيّ والأمنيّ، إذ تواصلت الإنتهاكات والإعتداءات على نشطاء المجتمع المدنيّ كما حدث مع خليفة نعمان وعزيز عمامي وصبري بن ملوكة وصفوان بوعزيز ولينا بن مهنّي وهالة بوجناح والإعتداء على اعتصام قدماء اتحاد الطلبة للمطالبة بحقهم في التشغيل وصولا إلى استمرار محاكمة شباب الثورة.
بالإضافة على ما شهدته المرحلة الأخيرة من تصاعد التعامل اللامسئول والفضّ من قبل الأمنيّين تجاه المجتمع المدنيّ والحقوق الأساسيّة للمواطنين تحت ذريعة محاربة الإرهاب، ولعلّ الحادثة الأخيرة التي شهدتها مدينة القصرين والمتمثّلة في مقتل الفتاتين أنس وأحلام الدلهومي تترجم عن حجم استسهال العنف في التعامل مع المواطنين.
المبرّرات القديمة الجديدة وشظايا الحرب على الإرهاب
خلال الحكومات المختلفة التي تتالت على البلاد، حاولت كلّ واحدة منها إيجاد المبرّرات المختلفة للعقيدة الأمنيّة العنيفة تجاه المواطنين، فتراوحت بين التصدّي للمؤامرات الخارجيّة حينا (انقلاب الشرايطي وأحداث قفصة أواخر الثمانينات)، أو عمالة الأطراف المناوئة وخدمتها لأجندات غربيّة وشرقيّة كما حصل مع العديد من الوجوه السياسيّة الحاضرة اليوم والتي كانت تتعرّض لحملات تشويه سياسيّة وأخلاقية ممنهجة في أبواق النظام الإعلاميّة، أو التصدّي للإرهاب وحماية الوطن من المجموعات المتطرّفة، وهي الحجّة القديمة الجديدة، والتي استعملها الرئيس السابق زين العابدين بن عليّ للتضييق على المجتمع المدنيّ ومحاصرة الحريّات والزجّ بمئات الشبّان في السجون لمجرّد الشبهة.
هذا المبرّر يطرح نفسه اليوم بقوّة إثر تصاعد العمليّات الإرهابيّة التي سقط على إثرها العديد من رجال المؤسّسة الأمنيّة والعسكريّة. وهو قميص عثمان الجاهز دوما لتبرير التضييق السياسيّ على مكوّنات المجتمع المدنيّ والتي استعرضنا فيما سبق عديد الأمثلة منها.
إنّ المشكلة الرئيسيّة التي تتعلّق بالحرب الدائرة حاليّا بين الجهاز الأمني من جهة والمجموعات المتطرّفة من جهة أخرى، تتعلّق أساسا بارتدادات هذه المعركة والتي تطال أطرافا تكون في أحيان كثيرة بعيدة كلّ البعد عن هذه الحرب بل ومناوئة للإرهاب والقتل والعنف.
فحالة التوتّر التي خلقها مناخ “الحرب على الإرهاب” لدى المواطنين وخصوصا الأمنيّين أنتجت العديد من الإنتهاكات والاعتداءات التي طالت نشطاء المجتمع المدني كلينا بن مهنّي التي تعرّضت مؤخّرا للضرب في جزيرة جربة من قبل أمنيّين بالإضافة إلى حالة الفتاتين أنس وأحلام الدلهومي اللتين كانتا ضحيّة لاستسهال استعمال السلاح والعنف المفرط من قبل دوريّة أمنيّة في مدينة القصرين.
والقضيّة الأساسية هنا هو تلك الثغرات أو الإنتهاكات التّي تغذّي الإرهاب، فالعنف وانتهاك حقوق الإنسان، لا ينتج عنه فقط نقمة الضحيّة على جلاّديه، وهو ما يظهر جليّا في تصريحات ذلك الشاب من تالة الذي تعرّض للحرق على يد عون أمن في مدينة زغوان في شهر أفريل من سنة 2011، بل تمتدّ نتائج العنف والعقيدة الأمنيّة القائمة على انتهاك الحرمات الجسديّة والمعنويّة للمواطن في خلق أرضيّة مناسبة لنموّ التطرّف وازدراء مؤسّسات الدولة وترسيخ العنف المتبادل كوسيلة وحيدة للردّ والتحاور مع الطرف الآخر.
طبعا، لا مبرّر للإرهاب ولا لرفع السلاح في وجه تونسيّ أيّا كان موقعه أو صفته، ولا يجب التساهل أبدا مع من ينظّرون للعنف والقتل واستهداف مؤسّسات الدولة ومن ضمنها وزارة الداخليّة، ولكنّ الحرب على الإرهاب عليها أن تأخذ بعين الاعتبار العوامل التي تؤدّي إلى فشل جهودهم في هذه المعركة المصيريّة، وهي بالأساس التجاوزات التي يأتيها الكثيرون من منتسبي الجهاز الأمنيّ ضدّ الأبرياء وضدّ نشطاء المجتمع المدنيّ ممن يحاولون التصدّي لاستغلال الظرف الأمنيّ الحرج من أجل تكميم الأفواه وضرب الحريّات الأساسيّة وعودة الممارسات القمعيّة. ففي النهاية وزارة الداخليّة ليست سوى مؤسّسة عموميّة تخضع لرقابة وسلطة الشعب وتموّل من الضرائب التي تُقتطع من مداخيل المواطنين ومهمّتها الرئيسيّة هي حماية كرامة التونسيّ وصون حرمته الجسديّة والمعنويّة والتصدّي لكلّ فرد أو مجموعة تهدّد السلم الاجتماعيّ وديمومة الدولة كهيكل إداريّ منظّم للعلاقات المجتمعيّة.
كما أنّ الحرب على الإرهاب لن تكتمل إلاّ بتوفّر دعم شعبيّ سيتناقص لحساب المجموعات الإرهابيّة مادامت الخروقات والإنتهاكات واستسهال امتهان كرامة المواطنين من قبل بعض الأمنيين مستمرّة ودون عقاب أو مسائلة.
الإعلام في دائرة الاستهداف
العنف البوليسيّ لم ينحصر ضدّ نشطاء المجتمع المدنيّ والسياسيّين والحقوقيّين، بل امتدّ ليشمل الإعلام وخصوصا ذلك الذّي كان شاهدا على ممارسات رجال الأمن وانتهاكهم لحقوق المواطنين.
قبل 14 جانفي 2011، كان الإعلام المناوئ لحكم الرئيس بن عليّ في قلب رحى الحرب على المعارضة، وتعرّض العديد من الصحفيّين للاعتقال والتضييق والترهيب مثل الفاهم بوكدّوس وتوفيق بن بريك وزهير مخلوف ولطفي الحاجّي وسليم بوخذير وعشرات غيرهم من الصحافيّين والمدوّنين، بالإضافة إلى قرصنة المدوّنات والمواقع المناوئة لحكم الرئيس السابق كمدوّنة مختار اليحياوي وموقع نواة، وحملات التشويه والشيطنة التي كان النظّام يطلقها عبر أبواقه الإعلاميّة ضدّ الصحافيّين الذين اختاروا الوقوف بوجه ممارساته القمعيّة…
هذه الممارسات لم تنتهي بهروب بن عليّ ودخول تونس مرحلة “الانتقال الديمقراطي”، بل رصدت عديد المنظّمات الحقوقيّة ونقابة الصحافيّين التونسيّين ومركز تونس لحريّة الصحافة تواصل الاعتداءات الجسديّة والمعنويّة على الصحافيّين من قبل قوّات الأمن سواء تلك التي تتعلّق بالإعتداء عليهم أثناء آداءهم وظيفتهم كما حدث في مناسبات عديدة نذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر قيام أحد العناصر الأمنية بالزي المدني بالاعتداء بالعنف الجسدي على مصور جريدة “الوقائع” الخاصّة جلال الفرجاني أثناء تصويره لعملية إيقاف إحدى المدونات خلال وقفة احتجاجية للمطالبة بإطلاق سراح المدون “عزيز عمامي” أمام وزارة الداخلية أوائل شهر ماي الفارط. كما عمد عون الأمن إلى تهشيم آلة التصوير الخاصّة بالجريدة.
وقام عون أمن آخر بالزي المدني بالاعتداء الجسدي واللفظي على الصحفي في موقع مركز تونس لحرية الصحافة طارق الغوراني خلال نفس الوقفة الاحتجاجية.
كما قامت مجموعة من أعوان الشرطة بالاعتداء لفظيا و جسديا على جملة من الصحفيين الحاضرين في المحكمة الابتدائية بالقصرين أثناء تغطية وقفة احتجاجية على خلفية محاكمة عصام العمري شقيق محمد العمري أحد شهداء الثورة بتالة بتهمة إحراق مركز شرطة.
وقد عمد أعوان الأمن إلى الاعتداء بالركل والضرب الشديد على مصور جريدة “الوقائع” آزر منصري والصحفي ربيع غرسلي. وقد تمّ تهشيم آلة تصوير غرسلي ممّا استوجب نقله إلى المستشهفى الجهوي. كما تعرّضت الصحفيّة المستقلّة فائزة الماجري إلى الضرب والشتم من قبل أحد الأعوان الأمنيّين خلال نفس التغطية.
و تم الاعتداء أيضفا بالعنف الشديد من قبل اعوان الامن على الزميل امين المطيراوي الصحفي بموقع نواة وتهشيم الكاميرا التي بحوزته أمام محكمة بن عروس خلال تغطيته لاطوار محاكمة مغنّي الراب المعروف بكنية “ولد ال15 ” صاحب كليب “البوليسية كلاب”.
ويبدو أنّ الجهاز الأمنيّ قد أخد بزمام الأمور في ما يتعلّق بالاعتداءات على الصحفيّين بعد تنصيب “حكومة التوافق الوطني” بعد أن كانت تلك المهمّة موكلة خلال فترة حكم النهضة إلى روابط حماية الثورة التي كانت تنفّذ اعتداءاتها على مرأى ومسمع من الأمنيّين وبحماية منهم كما حصل مع ناجي البغوري وزياد الهاني في جانفي 2014، بالإضافة إلى ما تعرّض له الصحفيّون من ضرب وشتم على يد روابط حماية الثورة أثناء تغطيتهم لاحتفال الذكرى الستين لاغتيال فرحات حشاد بساحة محمد علي بالعاصمة في 04 ديسمبر 2013 وغيرها من الأمثلة التي رصدها مركز تونس لحريّة الصحافة في تقاريره الشهريّة.
إذن لم يتغيّر التعامل الأمني تجاه الإعلام سواء قبل 14 جانفي أو بعده ورغم تغيّر الوجوه والأسماء والحكومات، إذ ظلّ الإعلام من المغضوب عليهم وظلّت السياسة الأمنيّة تتعامل مع الصحفيّين كمتطفّلين وعيون غير مرغوبة فيها خصوصا إذا ما تعلّق الأمر برصد انتهاكاتهم وامتهانهم لكرامة المواطنين وحقوقهم وممارستهم العنف الشديد في مواجهة الآراء المخالفة لسياسة الحكومات المتعاقبة والتعامل مع التحرّكات الاحتجاجيّة ذات الطابع السياسيّ أو المطلبيّ.
على من تقع المسئوليّة؟
رغم هذا السجّل الحافل بالإنتهاكات الأمنيّة والمسّ بالحقوق الأساسية للمواطنين التونسيّين، فإنّ مسالة المسائلة تظلّ جانبا مبهما في التعامل الرسميّ مع مثل هذه الأحداث.
بعد 14 جانفي 2011، وبرغم مناخ الحريّة والزوال النسبيّ للحصانة المطلقة للمسئولين الحكوميّين، فإنّ تكرار هذه الحوادث ظلّ يمرّ مرور الكرام ودون أن يخضع ايّ كان للعقاب ودون أن يقدم احد على تحمّل المسئوليّة.
والمقصود هنا وزراء الداخليّة الذين تعاقبوا على تلك المؤسّسة والتي شهدت فترات تنصيبهم ممارسات عنيفة وانتهاكات لا تغتفر، إلاّ أنّ أحدا منهم بدءا بالحبيب الصيد مرورا بعليّ العريّض وصولا إلى لطفي بن جدّو، لم يتحمّل مسئوليّة ما اقترفه الأعوان الميدانيّون رغم أنهم وبحكم مناصبهم هم المسئولون أخلاقيّا وسياسيّا بالخصوص على ما يأتيه صغار الموظّفين في وزاراتهم. وهو ما خلق عرفا جديدا في السياسة التونسيّة وهو أنّ صفة “الإنتقاليّ” أو “التكنوقراط” تُكسب صاحبها حصانة أبدية ضدّ انتهاكات وجرائم لا تسقط بتقادم الزمن.
ثقافة الأضحية وتسليم الرقاب
من خلال سلسلة من المقالات المنشورة على موقع “نواة” أو غيرها من المواقع والتي تناولت ضرورة التفريق بين الحرب على الإرهاب واحترام الحقوق والحريّات، تهاطلت مئات التعليقات أو بالأحرى الاهانات التي تبرّر تلك الإنتهاكات بل وتشرّعها.
ولكنّ الأخطر هو ما جاء في عديد منها والذّي استسهل التعدّي على كرامة المواطنين بل إراقتها في سبيل ما يعتبرونه “أمنا” و”استقرارا” يبيح كلّ شيء. وهو ما يعكس ما يتضمّنه المجتمع من فئة انتهازيّة مستعدّة للتضحية بكلّ القيم وتقديم رقابها طواعيّة والتغاضي عن امتهان كرامتها عند أوّل مرحلة حرجة تمرّ بها البلاد وتهدّد مصالحهم الضيّقة.
الإشارة لهذه التعليقات لا يدخل في خانة الردّ عليها بقدر ما هو لفت نظر لضرورة الإنتباه لعدم الخلط بين واجب الأمنيّ في حماية المواطن وواجبه في احترام كرامة هذا الأخير وحريّاته الأساسية، فقبل أن تطالب نقابة الامنيّين بإسقاط حقوق الإنسان وحقّ امتلاك السلاح الشخصيّ عليها أن تسعى لترسيخ احترام المواطن في عقول الأمنيّين وتغيّر من نظرة الإزدراء والتجريم التي ترسّخت في عقول الأمنيّين تجاه المواطنين العاديّين. فامتلاك السلاح لا يعني بالضرورة امتلاك الحقّ، والقوّة لا تعني بأيّ حال من الأحوال العصمة من الخطأ.
الإرهاب الإسلاموي والإرهاب البوليسي وجهان لعملة واحدة وينبعان من مصدر واحد: مخزون العنف والتوحش الذي يتميّز به شعبنا المسلم ولا يستسلم. ليس هناك فرقا بين أحد كلاب ليلى وبين أبناء غنوشو الذين أرسلهم لسوريا وليبيا واليمن ومالي. وشعبنا الباهي والمزيان سيبقى دوما ذلك الخزان الذي ينتج كل أنواع العنف الممكن