آخر خطاب صادر عن الحكومة التونسية كان خطاب يوسف الشاهد في البرلمان التونسي يوم 11 سبتمبر الجاري، والذي أعلن فيه تحويره الوزاري الأخير الذي شمل 13 وزارة و7 كتابات دولة، كان فرصةً للشاهد كي يكسب تعاطف الجمهور مع حكومته عبر الخطاب وإطلاق صفة “حكومة الحرب” على فريقه الجديد، وذلك في إصرار منه على أن يخلق هالة من القداسة حول وزارئه.

الحرب والتوافق: كلمتان للتسويق لا غير

تعني الحرب في دلالتها صراعا مسلحا (ليس بالضرورة سلاحا كلاسيكيا كالذي نعرفه) بين طرفين أو أكثر يحاول فيها كل طرف التغلب على الآخر بالقضاء عليه، ويفترض ذلك عددا من المعطيات من بينها ميدان الحرب والجيش والخطط والاتصالات والسيطرة وحد أدنى من معرفة العدو ورصد تحركاته وتصور شكل هجوماته. لكن الأمر مع “حكومة الحرب” التي أعلنها الشاهد يشي بواقع آخر، يمكن تلخيصه في جملة من الأسئلة: هل تشن حكومة الشاهد حربا على الفساد بتمرير قانون المصالحة الذي حرص حزبه نداء تونس على تمريره بأي شكل؟ هل ستواصل الحكومة بعد تعديل حربها على الفساد بحصيلة برلمانية خاوية لم تنتج طيلة سنة كاملة سوى قانونا واحدا لمكافحة الفساد وهو حماية المبلغين؟ ألا يمكن أن تكون تسمية “حرب” اختيارا تسويقيا لحكومة تتولى فيها وجوه من النظام السابق وزارات حساسة مثل وزارة المالية وسط أزمة اقتصادية حادة تضرب البلاد منذ سنوات؟ ما الذي جهّزه الشاهد من أسلحة وعتاد للحرب؟

يشي خطاب الشاهد في مجلس نواب الشعب باهتمام شديد بتوجهات اقتصادية، قد تثير في المستقبل مواجهات مع الأطراف الاجتماعية في البلاد من بينها اتحاد الشغل عبر حديثه عن نزعة حكومية نحو الخوصصة ومزيد الضغط على كتلة الأجور وتحديد متواصل للانتداب العمومي. وإذا وُضعت كلمة “حرب” وسط هذا السياق بالذات، فإن المعنى الدلالي العام يقول إن الشاهد يقود حربا ضد الطبقة المتوسطة والطبقة الضعيفة في البلاد.

قبل يوسف الشاهد، كان الحبيب الصيد رئيسا للحكومة، وقد تم تعيينه من قبل رئيس الجمهورية على أنه الشخصية المُرشحة من حزب الأغلبية الفائزة بأكثر مقاعد في الانتخابات التشريعية لسنة 2014 وهو حزب نداء تونس. ولم يكن النداء ذو أغلبية مطلقة أو مُريحة كي يشكل حكومة كاملة لوحده بل دفعته حسابات التوازنات العددية في البرلمان إلى تشريك حركة النهضة في الحكومة وضمان التحالف معها على المستوى البرلماني، وذلك للتمكن من تقديم مشاريع القوانين وتمريرها في البرلمان بأريحية الأغلبية النيابية لتنفيذ برامجه. وقد كَشف هذا التحالف أن الحزبين الأكبر في البلاد، النداء والنهضة، لا يتناقضان في البرامج السياسية العملية مثلما تم تسويق ذلك في خطابيهما السياسي، والدليل التحالف المتواصل على المستوى الحكومي والبرلماني للسنة الثالثة على التوالي إلى الآن. لكن كلمة السر في كل تلك المغالطة تكمن في “التوافق”.

لئن كانت الكلمة مشحونة بدلالات الاتفاق والانسجام والتفاهم نظرا لجذر الكلمة (و، ف، ق) إلا أن السياق التداولي للكلمة قد كشف عن مغالطة سياسية. فخلف الخطاب السياسي الحكومي الذي شدد على التوافق يوجد حزبان يستندان في شرعية وجودهما إلى مرتكزين متناقضين: المعطى الديني لدى حركة النهضة (حركة ذات خلفية إسلامية) والمعطى الحداثي الذي ينزع نحو فصل الدين عن السياسية لدى حركة نداء تونس (انطلاقا من تراث بورقيبي كما يقول الندائيون). هاتين النظرتان تمثلان أسباب وجود الحركتين، وبالرغم من تناقضهما فإن الحكم قد يصيغ بينهما نوعا من التوافق الذي يخفي تمسك كليهما بالسلطة، حتى وإن كانت رؤيتيهما المجتمعية متباينة.

“الشرعية” قناع المضي نحو المجهول

شهدت تونس منذ تولي الترويكا الحكم سنة 2011 عددا من الأزمات العميقة، خاصة في الجانبين الأمني والاقتصادي والاجتماعي، إلى جانب تحولات عميقة في المشهد السياسي أدت إلى ولادة حزب نداء تونس من جهة وتكثيف دور المجتمع المدني في المجال السياسي من جهة أخرى، خاصة فيما يتعلق بالحوار الوطني وبروز الرباعي الراعي للحوار كقوى فاعلة على الأرض مع الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية الأخرى. وقد حاولت حكومتي حمادي الجبالي (24 ديسمبر 2011 ـ 13 مارس 2013) وحكومة علي العريض (13 مارس 2013 ـ 29 جانفي 2014) أن تعتصما وراء مقولة الشرعية الانتخابية كي تحافظ الترويكا على بقائها في السلطة. وقد كان هذا الخطاب متواترا على لسان رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية منصف المرزوقي الذي وصل إلى حد مطالبة المجتمع الدولي ببعث محكمة دستورية دولية لحماية الشرعية ورئيس المجلس التأسيسي مصطفى بن جعفر.

وقد اتسمت فترة الترويكا، التي احتمت فيها السلطة بالشرعية، بعدد من الأحداث التي هزت تونس والمنطقة العربية والعالم على غرار اغتيالين سياسيين تسببا في تغيير حكومتين متتاليتين وإخراج الترويكا من السلطة وتولي “التكنوقراط” لزمام إدارة الدولة في المستوى الحكومي، الأمر الذي يكشف هشاشة مقولة الشرعية وسرعة تراجعها أمام قوة الضغط المجتمعي والسياسي من خارج “دائرة الشرعية”. ثم إن تصاعد وتيرة الاحتجاجات الشعبية والإضرابات ودخول البلاد في مرحلة تهديد السلم الاجتماعية حَوّل مقولة الشرعية إلى لغة خطابية سلطوية لا معنى لها على أرض الواقع، خاصة وأن تونس لم تعرف الاغتيالات السياسية منذ اغتيال صالح بن يوسف سنة 1961، وهذا ما جعل مفهوم الشرعية غير مقبول لدى الجمهور لأنه غير  متناقض مع الواقع.

حكومة “الوحدة الوطنية” والالتفاف على الثورة

بعد ثلاثة أيام من هروب بن علي، يوم 17 جانفي 2011، أعلن الوزير الأول محمد الغنوشي عن ما أسماه “حكومة الوحدة الوطنية” التي حافظ فيها على أسماء بارزة من النظام السابق وهم بالأساس رضا قريرة وزير الدفاع وأحمد فريعة وزير الداخلية وكمال مرجان وزير الخارجية ومحمد جغام وزير السياحة ووزير المالية رضا شلغوم ووزير التخطيط والتعاون الدولي محمد النوري الجويني. وقد تم تطعيم هذه الحكومة بأربعة أسماء منهم ثلاثة من المعارضة وهم: أحمد نجيب الشابي رئيس الحزب الديمقراطي التقدمي كوزير للتنمية الجهوية والمحلية وأحمد إبراهيم رئيس حركة التجديد كوزير للتعليم العالي ومصطفى بن جعفر رئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات كوزير للصحة، ووزير آخر كان محسوبا على المستقلين وهو حسين الديماسي كوزير للتكوين المهني والتشغيل.

حكومة “الوحدة الوطنية” بهذه التركيبة ليست سوى ذرّ للرماد على العيون، نظرا للتركيبة التي كانت تضم عددا كبيرا من المحسوبين على النظام السابق والتي كانت تتحكم في وزارات سيادية كبرى وهي الداخلية والدفاع والخارجية. وبالتالي -وبعد الثورة- كان من الضروري طرح سؤال عميق حول تلك الحكومة، حكومة وحدة من مع من؟

تقول الأعراف السياسية في العالم أن حكومة الوحدة الوطنية يتم تشكيلها في الغالب بعد أزمة سياسية في البلاد نشبت بين أطراف عديدة من داخل البرلمان ومن خارجه ويتم تشريك أطراف من خارج الحزب الحاكم أو الإئتلاف الحاكم، وذلك لتجنب مزيد تعميق الأزمة. لكن الحال في تونس في بداية الثورة لم يكن مجرد أزمة سياسية بين أحزاب تختلف في مصالحها أو برامجها، بل إن الأمر كان يتعلق بإسقاط نظام وبناء آخر جديد على قاعدة شعارات الثورة. وبهذه الكيفية فإن الحديث عن “وحدة وطنية” تعني أن النظام الزائل يحاول إنقاذ نفسه بعنوان فضفاض وماكر.

في المحصلة، ارتكز الخطاب السياسي للحكومات التونسية وتسمية الحكومات على الدعاية السياسية والتسويق وليس تلخيص المسار الحكومي الذي ينتظر الناس. فالحرب والتوافق والشرعية والفصول الدستورية أثبتت على مر الحكومات أنها شعارات لامتصاص غضب الشارع أو للتمويه بمعرفة متطلبات المرحلة في حين أنها تسميات لم تعكس فعليا سياسات تلك الحكومات.