أحدث تقرير دائرة المحاسبات حالة من الارتباك على الساحة السياسية التونسية للأعداد المهولة من التجاوزات والجرائم الانتخابية التي ارتكبها الأشخاص والقائمات الذي ترشحوا للانتخابات الرئاسية، والتي يمكن اختزالها في تدليس التزكيات وتلقي أموال للدعاية السياسية دون إدراجها في حسابات المترشحين المعنيين بالحملات الانتخابية والتعاقد مع شركات دعاية وضغط أجنبية للتأثير على الانتخابات والإشهار السياسي خلال فترة الصمت الانتخابي ودفع وتلقي أموال من شركات وأطراف أجنبية دون التصريح بها لدى البنك المركزي.

 

التقرير الذي تضمن 342 صفحة يعتبر وثيقة إدانة في ذاته بإمكان القضاء، إذا اعتمده في الملاحقة القانونية للمخالفين من القائمات الانتخابية التي وصل عددها 347، أن يلغي عضوية عشرات النواب من البرلمان ويتسبب لبعضهم في خطايا مالية ثقيلة وربما عقوبات سجنية .غير أن الإفلات من العقاب أضحى على ما يبدو  سياسة دولة خصوصا إذا ما تعلق الأمر بالأحزاب الكبيرة والمتوسطة من حيث تمثيليتها في مجلس النواب والمعنية خصوصا بتقرير دائرة المحاسبات، وهنا نتحدث عن حركة النهضة وحزب قلب تونس وتحيا تونس وحزب البديل .فمن من القضاة أو وكلاء الجمهورية اليوم يحاسب مجرمي الانتخابات ومهدري المال العام والمتعاملين مع الأجانب من أجل التأثير في مسار الانتخابات، إلا في حالة تصفية حسابات سياسية والتعامل بسياسة “الدوسيات” في حل الخلافات بين الفاعلين السياسيين في تونس.

للتذكير، فإن القانون الانتخابي ينص في الفصول 80 و93 و98 و163 على أنه من بين المهام الرقابية لمحكمة المحاسبات التأكد من عدم ارتكاب المرشحين لجرائم انتخابية وتسليط عقوبات زجرية تتراوح بين الخطايا المالية التي تصل لخمسين ضعفا من التمويل الأجنبي وعقوبة بالسجن لمدة تصل لــ 05 سنوات. ولعل المرشح للرئاسة نبيل القروي والمرشحة للانتخابات البرلمانية ألفة التراس رومبور عن قائمة عيش تونسي من بين أهم المخالفين لهذه الفصول حسب تقرير دائرة المحاسبات.

تعطل الإجراءات القضائية

وحسب القانون عدد 41 الذي يتعلق بمحكمة المحاسبات، للدوائر القضائية المركزية والجهوية لمحكمة المحاسبات الحق في مقاضاة المخالفين سواء تعلق الأمر بالحملات الانتخابية أو بإهدار المال العام وإصدار أحكام وعقوبات على مرتكبي الجرائم الانتخابية سواء أكانت عقوبات مالية أو سجنية .في الأثناء، لم نلاحظ أي تحرك لحد الآن من قبل وكلاء الجمهورية في محكمة المحاسبات وفي القضاء العدلي لمتابعة مرتكبي الجرائم الانتخابية الذي تورطوا في تزوير إرادة الناخبين بالمال السياسي الفاسد والدعاية المظللة وخرق القانون الانتخابي.

نائب وكيل الجمهورية والناطق الرسمي باسم المحكمة الابتدائية بتونس، محسن الدالي، قال إن النيابة العموميّة بالمحكمة الابتدائية “ستتخذ الإجراءات اللازمة، إزاء التجاوزات والإخلالات التي كشف عنها تقرير دائرة المحاسبات بخصوص انتخابات سنة 2019، حال توصّلها بأي إشعار في الغرض من محكمة المحاسبات” .وأوضح الدالي، أن النيابة العمومية بمحكمة المحاسبات هي التي تتولى إشعار النيابة العمومية بمحكمة القضاء العدلي، بوجود جرائم خلال العملية الانتخابيّة، وذلك عملا بالفصلين 15 و24 من القانون المحدث للمحكمة، مشيرا  إلى أنّ النيابة العموميّة لم تتوصّل إلى غاية اليوم، بأي إشعار من النيابة العمومية بمحكمة المحاسبات حسب تصريحاته لــوات.

ما يمكن فهمه من هذه التصريحات هو أن القضاء لا يزال يطيل أمد التحول من مجرد الرصد والرقابة إلى اتخاذ خطوات فعلية ومقاضاة من تسبب في الإضرار بالعملية الانتخابية وتزوير إرادة ووعي الناخبين بمخالفته للقانون الانتخابي والالتجاء لتدخلات أجنبية وهو أمر يصعب تفهمه إذا ما علمنا أنه انقضت لحد الآن سنة منذ صدور نتائج انتخابات 2019 وأن الجرائم الانتخابية تسقط بالتقادم في ظرف ثلاث سنوات إذا لم يتم إصدار أحكام خلال هذه الفترة. مما يعني عمليا انه لم يتبقى سوى سنتان لإصدار الأحكام واستكمال مسارات التقاضي، مع وجود شكوك بإمكانية التمطيط في المسار القضائي مثلما حصل في قضايا سابقة تتعلق بخصوم سياسيين، نذكر من بينها على سبيل الذكر لا الحصر قضية الجهاز السري لحركة النهضة واغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي وبعض القضايا المرفوعة على رموز من النظام السابق.

ولعل هذا ما دفع جمعية القضاة لدعوة “النيابة العمومية للقضاء العدلي والقطب القضائي المالي لإيلاء الأهمية لفتح التحقيقات الجدّية واللازمة بخصوص الجرائم الانتخابيّة الواردة بالتقرير العام لمحكمة المحاسبات وخاصّة التمويلات الأجنبيّة للانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة وكلّ التصاريح بالشبهات بشأن التمويل الأجنبي الواردة بالتقرير”.

التقرير يطال البنك المركزي

مسألة أخرى على غاية من الأهمية لم تلقى حظها في النقاشات الإعلامية التي دارت حول تقرير دائرة المحاسبات تتعلق برقابة البنك المركزي للشفافية المالية للحملات الانتخابية وبالخصوص الأموال التي دخلت من دول أجنبية أو لم يصرح بها لدى البنك المركزي بما أنه المشرف الوحيد على فتح الحسابات البنكية للمترشحين للانتخابات الرئاسية والتشريعية. وقد جاء في تقرير محكمة المحاسبات بهذا الخصوص أن “البنك المركزي لم يتقيد بأحكام الفصل 90 من القانون الانتخابي الذي أوكل له مهمة الإشراف على عملية فتح الحسابات البنكية والسهر على عدم فتح أكثر من حساب لكل مترشح واتخاذ الإجراءات اللازمة بما يحول دون التمويل الأجنبي للانتخابات”، وهي اتهامات خطيرة لا يمكن تجاهلها أو المرور عليها مرور الكرام.

مبنى البنك المركزي التونسي

البريد التونسي هو الآخر متهم بعدم اتخاذ الإجراءات اللازمة للرقابة على شفافية التمويلات الخارجية للانتخابات حيث جاء في التقرير بهذا الخصوص أن البريد التونسي “لم يحدد آليات متابعة التحويلات من الخارج إلى الحسابات البريدية الجارية التي تم تأمينها ومستوياتها”.

لا شك أن غياب التنسيق بين مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة كان له دور في حدوث الإخلالات التي حدثت في مسألة التمويل الأجنبي والتحايل على التصريح بأموال الحملات الانتخابية التي من المفترض أن تكون ضمن الحسابات البنكية للمترشحين. مما أحدث اختراقات ومخالفات لم تقدر الهيئة العليا للانتخابات -أو لنقل لم تجرؤ- على رصدها وإحالتها على القضاء خصوصا وأن البعض منها، وهنا الحديث عن المخالفات في حملة نبيل القروي للانتخابات الرئاسية وحملة راشد الغنوشي للانتخابات التشريعية، قد تحدثت عنها تقارير إعلامية متطابقة ونشرت حولها وثائق للعموم، كما هو الحال مع شركة الضغط “ماديسون آند ديكنز” التي يديرها عميل المخابرات الإسرائيلي السابق آري بن مناشي.

تخاذل هيئة نبيل بفون ؟

قضية محاسبة مجرمي الانتخابات الذي وصلوا للبرلمان من خلال تزوير إرادة الناخبين والتورط في تلقي وإرسال تمويلات أجنبية أو تمويلات غير مصرح بها لدى البنك المركزي في الانتخابات الأخيرة لا تقتصر على القضاء العدلي أو المالي بل هي كذلك وأساسا من مشمولات الهيئة العليا للانتخابات حيث ينص القانون الأساسي عدد 23 المتعلق بهيئة الانتخابات على متابعة المخالفين قضائيا وإسقاط قائمات مخالفة وتخطئة المتجاوزين. لكن، وعلى الرغم من ثبوت تعامل نبيل القروي مثلا، من خلال موقع وزارة العدل الأمريكية، مع شركة لوبيينغ لتلميع صورته في الخارج عبر حملة علاقات عامة للتأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية بإظهار القروي كرجل نافذ دوليا وله علاقات يمكن أن يستثمرها لصالح البلاد إذا ما ربح في الانتخابات، إلا أنه لم تصدر عن هيئة بافون أية قرارات من شأنها معاقبة هذا المترشح على الجريمة الانتخابية التي ارتكبها ما عدى مراسلة وزارة المالية للتثبت من الأمر.

نبيل بفون

هذا عدى القضايا التي رفعتها بعض الأحزاب، مثل التيار الديمقراطي، حول وجود عمليات تزوير ومخالفات للقانون الانتخابي لم يأخذها نبيل بفون بعين الاعتبار، بل اعتبر في حوار على قناة التاسعة أن الهيئة تصلها آلاف الشكاوى ولا يمكن النظر فيها كلها، وبأن الهيئة أسقطت العديد من القائمات في الأثناء. ولكن هل أن قضية اللوبيينغ التي دفع فيها نبيل القروي  712.6 ألف دينار تعتبر قضية بسيطة حتى لا يعطيها بفون الأهمية اللازمة ويقتصر على مجرد إعلام وزارة المالية دون اتخاذ قرار بإسقاط ترشح القروي مثلا أو تخطئته ماليا على قدر المال الفاسد الذي دفعه للشركة الكندية دون حتى أن يتم التصريح به لدى مصالح البنك المركزي؟

نقطة أخرى جديرة بالتوقف عندها جاءت في حديث بفون التلفزي وهي قوله أنه حتى لو ورد تقرير دائرة المحاسبات على الهيئة قبل شهرين من الإعلان عن نتائج انتخابات أكتوبر 2019 فإنه لن يسقط القائمات أو الأشخاص المخالفين بتعلة أن الادعاءات الواردة في تقرير محكمة المحاسبات تتطلب مسارا كاملا من التقاضي والدفاع عن المتهمين إلى أن يصدر الحكم النهائي. إذا كان الأمر كذلك فبماذا يفسر رئيس هيئة الانتخابات الشكاوى والدعاوى التي وردت عليه خلال فترة الانتخابات وقبلتها الهيئة وأصدرت بناء عليها أحكاما بإسقاط قائمات انتخابية والحال أنه مهما كان مصدرها لا يمكن أن يرقى لعمل ومجهود هيئة قضائية مالية ممثلة في محكمة المحاسبات و معروفة باستقلاليتها وشفافيتها؟

يبقى في الأخير التنويه إلى أن تزوير إرادة الناخبين عبر تجاوز سقف قيمة التمويل المسموح به في الحملات الانتخابية وتلقي المال السياسي الفاسد من خارج حدود البلاد والتعامل مع شركات ضغط أجنبية من أجل تلميع صورة المترشحين وغيرها من الجرائم الانتخابية، علاوة على أنه لا يضمن تساوي الفرص في الانتخابات بين من يملك المال والوسائل المادية والإعلام وبين من لا يملك كل ذلك، فإنه يضر كثيرا بمسار الانتقال الديمقراطي في تونس بعد عشر سنوات من الثورة ويدمر الحياة السياسية أكثر مما هي عليه، وهو ما يتطلب من كل مكونات المجتمع المدني والديمقراطيين في تونس عدم الركون لمجرد البيانات والتنديد والانتقال لاتخاذ خطوات عملية عبر القضاء والتحركات السياسية وعدم ترك المجال للسلطة التنفيذية لقبر هذه الجرائم.