مؤتمر طبرقة: التركة الثقيلة
عقد الاتحاد العام التونسي للشغل مؤتمرة الثاني والعشرون في مدينة طبرقة من 25 إلى 28 ديسمبر 2011، في ظرف استثنائي بكلّ المعايير. القيادة النقابيّة حينها وعلى رأسها عبد السلام جراد ونائبه عبيد البريكي الوزير الحالي في حكومة يوسف الشاهد المكلّف بحقيبة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد، كانت تستعدّ لتسليم المكتب التنفيذي لوجوه جديدة في خضّم حالة من الاحتقان السياسي ومعارك متعدّدة الجبهات. المؤتمر الذّي أعقب انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وتولّي ما عُرف بالترويكا زمام الحكم بقيادة حركة النهضة، فرض واقعا سياسيا معاديا للمكتب المتخلّي آنذاك والذّي كان يتعرّض لحملة شرسة من الطيف السياسي الحاكم بغية تصفية حسابات قديمة وتحييد الاتحاد عن الشأن السياسيّ بعد أن ترسّخ دوره بإعلان الإضراب العام في البلاد يوم 14 جانفي 2011، وساهمت مكاتبه الجهويّة والمحليّة باقتدار في الحراك الشعبي طيلة الفترة الممتدّة بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011. لكنّ المركزية النقابيّة لم تستطع أن تمحو من الذاكرة شبهات الفساد والمهادنة التي وصلت حدّ الانصياع لنظام بن عليّ وفرضت تجديد دماء القيادة النقابية استعدادا لمرحلة جديدة من الصراعات ولدور جديد للاتحاد في تشكيل المشهد السياسي.
القيادة الجديدة للاتحاد وإعادة تشكيل مربّع الحركة
في الثمن والعشرين من ديسمبر 2011، تم الإعلان عن تركيبة المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل وعلى رأسها حسين العبّاسي. قيادة جديدة وجدت نفسها دون تأخير في خضّم معارك متعدّدة وجبهات عديدة، بدأ بالعداء الحكومي الواضح للمنظّمة النقابيّة مرورا بتزايد الحراك الشعبي المناهض للترويكا الحاكمة انتهاء بانفلات الحراك الاجتماعي والاضرابات القطاعية والمطلبيّة، إذ تشير الإحصائيّات الرسميّة إلى تضاعف نسبة الإضرابات بين سنتي 2010 و2012 بنسبة 105 %، في كلّ الجهات تقريبا وفي مختلف القطاعات، لتشمل ما يقارب 411 مؤسّسة عموميّة وخاصّة.
منذ الأشهر الأولى لتولّي المكتب التنفيذي لمؤتمر طبرقة زمام المور في الاتحاد العام التونسي للشغل، تميّزت العلاقة مع الحكومة بالتوتّر والتبادل الاتهامات. فالمنظّمة النقابية التي كُبّلت لسنوات، لم تعد ترغب في تأجيل استحقاقات منخرطيها ومطالبهم الشغلية، كما فرض الواقع السياسي خروج المنظّمة من بوتقة العمل النقابي الصرف إلى التعاطي بكامل ثقلها مع الشأن السياسي كطرف مؤثّر. أمّا الحكومة، فكانت تسعى لتحديد مربّع حركة الاتحاد العام التونسي للشغل وتعتبر طفرة الإضرابات والحراك الاحتجاجي عملا عدائيا هدفه إضعاف الترويكا واسقاطها لصالح أطراف سياسية معارضة.
التوتّر بلغ أقصاه في الخامس من ديسمبر 2012، عندما حاصرت روابط حماية الثورة المحسوبة على حركة النهضة المقرّ المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل ومحاولة اقتحامه في ظلّ تلكؤ أمني متعمّد. لتبدأ منذ ذلك التاريخ ما يمكن تسميته بمعركة كسر العظام بين الطرفين.
بين قطيعة شبه تامة، وإضرابين عاميّن عقب اغتيال السياسيّين شكري بلعيد في 06 فيفري 2013، ومحمد الابراهمي في 25 جويلية من نفس السنة، حسمت المعركة بين الطرفين بإسقاط حكومة الترويكا برئاسة علي العريّض، وإعلان بدا الحوار الوطني في سبتمبر 2013 تحت رعاية الرباعي الراعي للحوار الذّي كان الاتحاد العام التونسي للشغل أحد أهمّ أطرافه، للبحث عن رئيس حكومة توافقي لاستكمال المرحلة الانتقالية قبيل الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة نهاية سنة 2014.
مأزق التوافق والمهادنة الاضطرارية
بعد ماراطون الحوار الوطنيّ، والإتفاق على حكومة توافقيّة برئاسة وزير الصناعة السابق في عهد الترويكا مهدي جمعة، لم يشهد الوضع الاقتصادي تغييرا يذكر، بل تواصل التدهور في جميع القطاعات، لكنّ اللافت للنظر أنّ عدد الإضرابات قد انخفض بنسبة 24% بالنسبة لنفس الفترة من سنة 2012 و بـ 30 %بالنسبة لسنة 2011، كما انخفض عدد المؤسسات المعنية بهذه الإضرابات في سنة 2013 مقارنة بسنة 2012 بنسبة 35 %و بـ 15% مقارنة بسنة 2011 حسب تقارير صادرة عن وزارة الشؤون الإجتماعيّة.
تراجع نجم عن التزام اتحاد الشغل بسياسة المهادنة التّي وجد نفسه “مجبرا” على اتباعها بالنظر إلى تموقعه السياسي الجديد مع حكومة كان شريكا في تنصيبها صحبة منظّمة الأعراف والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والهيئة الوطنية للمحامين بتونس. بعد تعيين حكومة مهدي جمعة، وأمام تعاظم نفوذ منظّمة الأعراف، انحسر دور الطرف المقابل وهو الإتحاد العام التونسي للشغل الذّي تمّ تحييده بشكل شبه كلّي عن الشأن السياسيّ وإرهاقه في مسار الحوار الوطني الاقتصادي، حيث حاول اتحاد الشغل الوقوف في وجه ما حاولت منظّمة الأعراف وحكومة مهدي جمعة تمريره خلال الفترة الانتقاليّة من إصلاحات اقتصاديّة جذريّة خصوصا في ما يتعلّق بالقطاع العموميّ. كما كان للمناخ العام الرافض للحراك المطلبي والاجتماعي تأثير في تشكيل مواقف المنظّمة الشغيلة في ظلّ سياسة الترهيب الاقتصاديّ وعلوية المعركة ضدّ الإرهاب.
بعد انتخابات 2014: العودة إلى قلب الرحى
رغم حصول الرباعي الراعي للحوار على جائزة نوبل للسلام في 9 أكتوبر 2015، إلاّ أنّ المناخ الاحتفالي وأجواء الاحتفاء بالمسار التوافقي بين مختلف الأطراف السياسيّة والمنظّمات الوطنيّة لم يحجب الصراعات الدائرة في ظلّ حكومة الحبيب الصيد، والتي تمحورت بالأساس حول الملفّ الاقتصادّي.
فالاتحاد العام التونسي للشغل، خاض خلال الفترة التي تلت تشكيل حكومة الحبيب سلسلة من الجلسات والاضرابات القطاعيّة التي فاقت 150 إضرابا منذ بداية 2015 بحسب وزارة الشؤون الاجتماعيّة لتسوية ملفّ الترفيع في الأجور في القطاع العام والذّي انتهى انتهى بتوقيع اتفاق مع الحكومة في 22 سبتمبر 2015 نصّ على الترفيع في أجور العاملين في الوظيفة العمومية والقطاع العمومي للسنوات الثلاث المقبلة*.اتفاق لم يشفع لهذه الحكومة التي وجدت نفسها وحيدة خلال موجة الاحتجاجات التي أعقبت انتحار الشاب رضا اليحياوي في القصرين في 16 جانفي 2016 بعد أن أعلنت منظّمة الشغيلة دعمها للحراك الاجتماعي حينها، كما تخلّى عنها بتوقيعه ما يعرف بوثيقة قرطاج في 13 جويلية 2016 والتي أنهت مهام رئيس الحكومة الحبيب الصيد وأتت بيوسف الشاهد على رأس فريق حكومي جديد.
لكنّ تلك الفترة شهدت بالتوازي تعاظم دور الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة الذّي صار الخصم الأوّل للاتحاد العام التونسي للشغل منذ حكومة مهدي جمعة بعد أن تجلّت التناقضات الكبرى في التعاطي مع مختلف الملفّات الاقتصاديّة على غرار القطاع العمومي وإصلاح المؤسّسات الحكومية والترفيع في أجور موظّفي القطاع الخاصّ والتي كادت تنتهي بإعلان إضراب عام في المؤسّسات الخاصّة في 20 أكتوبر 2015.
الأمتار الأخيرة من عمر المكتب التنفيذي الحاليّ، لم تخلو من المواجهات مع حكومة يوسف الشاهد منذ أوّل خطاب لهذا الأخير. حيث كانت رؤيته لحلّ الأزمة الاقتصاديّة فاتحة لفصل جديد من المواجهات مع منظّمة الشغيلة وصلت ذروتها مع طرح مشروع قانون المالية لسنة 2017 والذّي تضمّن إجراءات خاصّة بتأجيل الزيادات المقرّرة في أجور موظّفي القطاع العام وتجميد الانتدابات في الوظيفة العموميّة، تمّ تبنّيها من تقرير بعثة صندوق النقد الدولي بخصوص اصلاح قطاع الوظيفة العمومية. أزمة دفعت بالخلافات إلى حدّ تلويح الاتحاد العام التونسي بالشغل بالإضراب العام في 08 ديسمبر 2016، قبل التوصّل إلى اتفاق مع حكومة الشاهد قبيل ساعات من تاريخ الإضراب.
بغضّ النظر عن التركيبة الجديدة للمكتب التنفيذيّ المرتقب، وبعيدا عن كواليس حسابات التوازنات والتوافقات، فإنّ قيادة اتحاد الشغل المقبلة سترث هي الأخرى تركة ثقيلة من الاستحقاقات السياسيّة والنقابيّة، خصوصا وأنّ المكتب التنفيذي الحالي يهمّ بالمغادرة دون حسم ملفّ التشغيل في القطاع الخاصّ وبعد أن اقتصر دوره على كبح جماح الحكومات المتعاقبة عن تنفيذ حزمة الإصلاحات الهيكليّة الواردة في توصيات هيئات النقد الدوليّة بخصوص الوظيفة العمومية دون أن يسقط مشاريعها نهائيّا. ممّا ينذر بأنّ القيادة النقابيّة الجديدة ستجد نفسها دون طول انتظار في خضم معارك التموقع وتحديد مربّعات النفوذ والحركة.
iThere are no comments
Add yours