خلف الحركات المدروسة، والتلاعب بنبرات الصوت، والعرض الفرجوي لخطاب يوسف الشاهد أمام مجلس النواب في 26 من أوت الجاري، خلال جلسة منح الثقة لفريقه الحكومي الجديد، مرّر هذا الأخير، ما يمكن تسميته ببرنامجه الاقتصادي ورؤيته لكيفيّة معالجة التركة الاقتصادية الثقيلة وإدارة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. خطاب المصارحة الثاني، بعد خطاب مهدي جمعة في مارس 2014، كشف حجم التدهور الذّي بلغته مختلف المؤشّرات الاقتصاديّة في كلّ القطاعات دون استثناء، ولكنّه أماط اللثام عن الخطوات المقبلة لهذه الحكومة في علاقة بما يعرف ببرنامج الإصلاح الشامل لصندوق النقد الدولي، وتصفية القطاع العام، كما أطلق نذرا بمعارك جديدة مقبلة بين حكومة يوسف الشاهد ومختلف الأطراف ذات العلاقة بالمسألة الاقتصادية والاجتماعية.
من مهدي جمعة إلى يوسف الشاهد: خطاب الترهيب الاقتصادي
قبل أكثر من سنتين، أطلّ رئيس الحكومة التونسيّة الجديد مهدي جمعة مساء الثالث من مارس، ليتحدّث بإسهاب عن مشاكل الاقتصاد التونسيّ ومدى العجز الذي تعرفه ميزانيّة 2014. لقد حاول هذا الأخير في إطلالته تلك التي درج الإعلام على تسميتها بلقاء ”المصارحة“، على أن يعطي صورة كاملة وواضحة للشعب عن الوضع الاقتصادي للبلاد في هذه الفترة الإنتقاليّة، فتحدّث عن واقع الموازنات الماليّة للبلاد وحجم العجز والتراجع الذّي تعرفه مختلف القطاعات. وقد أفاد حينها أنّ الديون التونسيّة بلغت خلال السنوات الأربع المنقضية 25 مليار دينار لتستنزف ما يقارب ال50 % من الناتج المحليّ الخام للبلاد، كما بلغت نسبة البطالة بالمائة لتصل في المناطق الغربيّة للبلاد إلى الضعف. إضافة إلى تراجع سعر صرف الدينار إلى 2.3129 بالنسبة للأورو و1.693 بالنسبة للدولار، أما خسائر الشركات العمومية على غرار شركة فسفاط قفصة المجمع الكميائي في قابس فقد ناهزت 3000 مليون دينار. هذا الوضع الاقتصادي الحرج جعل الدولة عاجزة عن دعم بقيّة المؤسّسات العموميّة الأخرى أو تمويل مشاريع تنمويّة جديدة بحسب رئيس الحكومة السابق مهدي جمعة.
خطاب المصارحة الثاني، على لسان رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد، كشف تفاقم أزمة الاقتصاد التونسي الذّي كذّبت مؤشراته تصريحات مسؤولين سابقين عن تحسّن ملحوظ وعن جدوى القروض وحسن سير المخططات التنموية، حيث ارتفعت المديونية التونسية خلال سنتين لتناهز 56 مليار دينار وهو ما يكلّف الدولة 62 بالمائة من ناتجها المحلي الخام، كما تراجع سعر صرف الدينار التونسي ب20 بالمائة، إضافة إلى تفاقم عجز الميزانية العمومية إلى 6500 مليون دينار أي ما يعادل ضعف الرقم المتوقع حسب قانون المالية لسنة 2016 واستمرار تراجع انتاج الفسفاط ب60 بالمائة. في المقابل، لم تتكن الحكومات المتعاقبة من تطوير النمو الاقتصاديّ الذّي ظلّ في حدود 1 بالمائة، وهو ما انعكس على جهود التشغيل، لتتفاقم معضلة البطالة مع أكثر من 650 ألف معطّل عن العمل. أما صناديق الضمان الاجتماعي، فقد ارتفع عجزها إلى مليار و648 مليون دينار سنة 2016.
خطابا المصارحة لم يكونا مجرّد سرد للأرقام والمعطيات أو محاولة من رئيسي الحكومة لتوضيح الواقع الاقتصادي للبلاد، بل تجاوزتها لتعكس قراءة كلّ فريق حكومي وتصوّراته حول الحلول الممكنة وبداية لحملة التخويف الممنهجة لتسهيل قبول النّاس بالحلول الجديدة/القديمة.
وإن كان مهدي جمعة قد ركّز على الحدّ من الإحتجاجات المطلبيّة والحراك الإجتماعي كأساس لوضع خطّة إنقاذ واضحة إضافة إلى الإقتراض الداخلي والتسوّل من ”الأصدقاء والأشقاء“ لإنقاذ ميزانيّة تلك السنة، فقد تطرّق للخطوات المستقبليّة القائمة على إعادة هيكلة الإقتصاد التونسيّ ككلّ ومراجعة منظومة الدعم وبدأ عمليّة التدقيق في البنوك العموميّة. أما نظيره يوسف الشاهد فقد مرّر من خلال كلمته في مجلس نواب الشعب، جزءا من برنامجه الاقتصادي وسياسته في مواجهة الأزمة المتفاقمة. إذ لوّح هذا الأخير بانتهاج سياسة التقشّف القائمة على تقليص مصاريف الدولة في قطاع الصحة والضمان الاجتماعي وتسريح آلاف الموظّفين والعمال إضافة إلى الترفيع في الضرائب وإيقاف الاستثمار العمومي والمشاريع التنموية. أمّا رؤيته للتنمية، فتمحورت حول ضرورة الضرب بحزم على التحركات الاحتجاجية والمطلبية وإعادة قيمة العمل كأساس للإنتاج، بمفهومه الخاصّ.
سياسة تقشّف وتضحيات من طرف واحد
خلال كلمة يوسف الشاهد حول مخاطر استمرار الأزمة الاقتصاديّة الراهنة، لوّح هذا الأخير بانتهاج سياسة التقشّف للضغط على مصاريف الدولة. سياسة ستقوم بحسب ما جاء على لسانه على الحدّ من نفقات الحكومة تجاه الفئات المتوسّطة والضعيفة، وهي خدمات تشمل الصحة والضمان الاجتماعي إضافة على المشاريع التنموية في الجهات المهمّشة وتسريح آلاف العمال والموّظفين في المؤسسات العمومية. كما تطرّق إلى الترفيع في الضرائب لحلّ مشكلة نقص واردات الخزينة العمومية. لكنّ هذا الأخير تغافل عن التبعات الاجتماعية والاقتصادية الكارثية لهذه السياسة التي ستمسّ الخدمات الأساسية المقدّمة للمواطن محدود الدخل، دون توفير بديل أو الحديث عن تحسين مستوى الأجور والمعيشة لتمكين المتضرّرين من اللجوء إلى القطاع الخاصّ. أما بالنسبة للضرائب، ف80 بالمائة من دافعي الضرائب هم من الطبقة الوسطى من موظفي القطاع العام، وهنا وجب على رئيس الحكومة التفكير في الإسراع في إيجاد آلية لتحقيق العدالة الجبائية والتسريع في انهاء مشروع الإصلاح الجبائي لتعزيز موارد الدولة واستعادة أموال المتهرّبين بدل إثقال كاهل الفئات الأضعف بضرائب جديدة.
من جهة أخرى، تحدّث رئيس الحكومة حول مقاربته لمفهوم التنمية، القائم على استمرارية الإنتاج وانتظام العمل إضافة إلى تشجيع الاستثمار. مقاربة سطحية ركّزت على ارتدادات الاعتصامات والاضرابات وتأثيرها على دورة الإنتاج، وحمّلت المسؤولية للتحركات الاحتجاجيّة دون غيرها. فديمومة العمل واستقرار الإنتاج يقوم بالأساس على ضمان حقوق العملة وتوفير مناخ ملائم في مختلف القطاعات، وهو ما يغيب في تونس التي يعمل أكثر من 50 بالمائة من عمالها وموظفيها وفق آليات تشغيل هشّة، وتغاضي الدولة عن الانتهاكات التي تطال الأجراء على مستوى العقود والأجور وساعات العمل والتغطية الاجتماعية. أما الاحتجاجات التي هدّد هذا الأخير بالتعامل معها بحزم على غرار مشكلة الحوض المنجمي، فلم يكلّف نفسه عناء التساؤل عن جذور المشكلة والخلل المستمرّ منذ سنوات في إدارة القضية وسياسة الوعود والتسويف التي أفقدت الناس الثقة في الطرف المقابل. البعد الثاني في مقاربة رئيس الحكومة، فيرتكز على الاستثمار، ليدعو إلى التسريع على المصادقة على مشروع مجلة الاستثمار الجديدة التي ما تزال محلّ جدل بين الخبراء الاقتصاديين، وهو ما ينبؤ بتكرار سيناريو قانون استقلالية البنك المركزي وقانون المؤسسات المالية والبنكية، حيث تمّ تمرير القانونين رغم المؤاخذات العديدة ضدهما ورغما عن المعارضين باستغلال الأكثرية النيابية للأحزاب الحاكمة. هذا ولم يتناول رئيس الحكومة المشاكل الأخرى المعطلة للاستثمار على غرار طبيعة الاستثمارات المحلية والخارجيّة، وغياب البنى التحتية في المناطق الداخلية وتفاقم ظاهرة التهريب والتهرب الجبائي ونقص الوسائل اللوجيستية وغيرها من النقائص الهيكلية التي تعطّل نمو الاستثمار في البلاد.
أما فيما يخصّ الأولوية المطلقة لحكومة الشاهد الجديدة، فكيف يستقيم أن تحارب الحكومة الفاسدين في حين تعمل الرئاسة ومن وراءها حزب رئيس الحكومة جاهدين على تمرير قانون المصالحة الاقتصادية لتغطية الفساد والفاسدين؟؟
مواجهات في الأفق
التلويح بسياسة التقشّف، والتلميح لإمكانية الحكومة الجديدة الإيفاء بالتزاماتها بخصوص الزيادة في الأجور للسنة المقبلة والمقدرة ب1615 مليون دينار في الوظيفة العمومية، فتح الباب أمام مواجهة محتملة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، الذّي كان من بين الممضين على اتفاق قرطاج، وممن دعموا المضي قدما في تشكيل حكومة الوحدة الوطنية. لكن الرسائل التي بعث بها رئيس الحكومة يوسف الشاهد وإمكانية تراجعه عن الإيفاء بالزيادة المقررّة للسنة المقبلة، إضافة على تحميله جزء كبيرا من الأزمة الاقتصادية للقطاع العام، دفعت بالاتحاد العام التونسي للشغل إلى إصدار بيان في 27 أوت الجاري ليؤكد من خلاله تمسّكه بالمؤسّسات والمنشآت العمومية، ويحذّر من المساس بدورها وبوظيفتها الاقتصادية والاجتماعية. كما رفض الاتحاد أن يدفع الشغّالون نتائج الفشل الحكومات السابقة، مشيرا أنه سيقف ضد أي سياسة لتحميل الإجراء والفئات محدودة الدخل تبعات وأعباء إخفاقات السياسات المتبعة لعقود. أما بالنسبة لأزمة الفسفاط، فاعتبر المكتب التنفيذي أنّها مشكلة مفتعلة تقف وراءها لوبيات الفساد التي كان من الأجدر بالحكومة مواجهتها، وقد أكّد نفس البيان على ضرورة تقاسم الأعباء كل حسب امكانياته وموقعه.
المواجهة قد لا تتوقف عند الاتحاد العام التونسي للشغل، فمواقف بعض الأحزاب على غرار الجبهة الشعبية الرافضة لرئيس الحكومة وفريقه، إضافة إلى بعض المنظمات الوطنية على غرار اتحاد المعطّلين عن العمل من أصحاب الشهائد العليا، قد تجد نفسها في مواجهة هذه الحكومة التي تبدو مصرّة على المضي قدما في استكمال شروط هيئات النقد الدولية وتعزيز نفوذ رجال الأعمال وتقليص دور الدولة في الدورة الاقتصادية على حساب المسألة الاجتماعية، وعدالة تقسيم الثروة التي لم تتمكن سبع حكومات من تحقيقها رغم انها كانت قادحا لغضب الناس في 2011.
محاربة الفساد ، على كل مستواياته و أصنافه ، تكفي للخروج من قاع البئر .. أما الزوالي فيحتاج لأكثر عدالة إجتماعية و ليس لمزيد سلبا و نهبا… سياسة التقشف للخروج من الأزمة تبين أنها أكذوبة الفاشلين .