تتسارع الأحداث بنسق مطرّد مع اقتراب خطاب رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي اليوم الأربعاء 10 ماي 2017 في قصر المؤتمرات في العاصمة. الكلمة المنتظرة، والتي تتكتّم رئاسة الجمهورية عن خطوطها العريضة، واستقالة رئيس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات شفيق صرصار وعضوين آخرين، فتحت المجال أمام سيل من التكهّنات حول فحوى تدخّل الرئيس خصوصا مع تزايد اخفاقات الحكومة على الأصعدة السياسيّة والاقتصاديّة والإجتماعيّة، وعجز الشاهد الذّي كان الباجي قائد السبسي عرّاب وصوله إلى القصبة عن التعاطي مع عديد الملفّات العالقة على غرار قانون المصالحة وملّف اعتصام الكامور وتداعي فريقه الحكومي وتفاقم عزلته عن اللاعبين الأساسيين في الساحة السياسيّة والنقابيّة.

48 ساعة أطلقت جماح التكهّنات

تزامنا مع الندوة الصحفيّة للزهر الجويلي المكلّف العام بنزاعات الدولة المُقال منذ 28 أفريل الفارط، خرج شفيق صرصار، البارحة الثلاثاء 09 ماي 2017 ليعلن استقالته من رئاسة الهيئة العليا المستقلّة للإنتخابات رفقة القاضي مراد المولهي نائب رئيس الهيئة والقاضية لمياء الزرقوني في قرار شغل الرأي العام في مواقع التواصل الاجتماعي ومثّل أهمّ مادة تناولتها مختلف وسائل الإعلام طيلة مساء ذلك يوم. على غرار لزهر الجويلي الذّي تحدّث عن معوقات إداريّة ولوجيستية والتوظيف السياسي لهذه الإدارة المركزية المختصّة في الدفاع عن مصالح الدولة، تجنّب شفيق صرصار الخوض في تفاصيل استقالته، مشيرا إلى خلافات عميقة صلب الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات وانحرافات خطيرة “تمس بالقيم وبالمبادئ التي تتأسس عليها الديمقراطية” حسب تعبيره.

الثمان وأربعون ساعة التي تسبق خطاب رئيس الجمهوريّة المنتظر، لم تخلو من تحرّكات أخرى زادت من قلق الشارع التونسي الذّي عاين حالة التأزّم التي وصلت إليها البلاد على المستوى السياسي والاقتصادي والإجتماعي. إذ ترأّس الباجي قائد السبسي صبيحة الإثنين 08 ماي الجاري اجتماع مجلس الأمن القومي، ليعقبه باجتماع ثان يوم الثلاثاء مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد دون تفاصيل أخرى.

تسارع الأحداث وتوقيت استقالة شفيق صرصار وتتالي الاجتماعات في قصر قرطاج إضافة إلى التكتّم على فحوى الخطاب المنتظر، أضفى حالة من الريبة والتوجّس إزاء كلمة رئيس الجمهوريّة “الاستثنائيّة” كما يعتبرها البعض والتي ستشهد حضور رئيس الحكومة وفريقه وممثلي الأحزاب السياسية، ورئيس وأعضاء مجلس نواب الشعب، وعدد من الشخصيات والمنظّمات الوطنية.

خطاب لفكّ عزلة يوسف الشاهد

يطلّ رئيس الجمهوريّة هذه المرّة وحكومة الشاهد تعيش أحد سوأ فتراتها مع تفاقم الأزمات على جميع الأصعدة. فهذا الأخير المحاصر بين الإضرابات العمّاليّة واعتصامات المعطّلين عن العمل والاحتجاجات الشعبيّة وتصدّع فريقه الحكومي بإقالة وزير التربية ناجي جلّول ووزيرة الماليّة لمياء الزريبي في الأوّل من الشهر الجاري، إضافة إلى فشل زيارته إلى تطاوين وتواصل إعتصام الكامور، فقد الكثير من هامش المناورة خصوصا مع تزايد الدعوات لإقالة حكومته برمّتها وعزلته عن شركاء اتفاق قرطاج وتذبذب العلاقة مع الاتحاد العام التونسي للشغل.

يوسف الشاهد الذّي دخل القصبة عقب اجبار رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد على الإستقالة وتوقيع ما اصطلح على تسميته وثيقة قرطاج، لم يستطع الحفاظ طويلا على الصورة التي تمّ تسويقها حول حكومة الإنقاذ و”النفس الجديد” الذّي سيجمّع التونسيين حوله. فعلى المستوى السياسيّ لم ينجح رئيس الحكومة الحالي في تخفيف الإحتقان مع أحزاب المعارضة التقليديّة على غرار الجبهة الشعبية والتيار الديمقراطي، ليخسر حلفاء سابقين من الممضين على وثيقة قرطاج كمشروع تونس والاتحاد الوطني الحر. العزلة السياسيّة والرغبة في الإطاحة بحكومة يوسف الشاهد بلغت أوّجها مع دعوة الأمين العام لحزب مشروع تونس محسن مرزوق إلى إقالة الفريق الحكومي الحالي وتكوين “حكومة كفاءات وطنية”. في المقابل لم يجد الشاهد الدعم المنتظر من حركة النهضة، الحليف الأقوى لحزب نداء تونس في الحكم، والتي تراهن حتّى هذه اللحظة على لعبة ازدواجية المواقف والمساندة السلبيّة.

أمّا على المستوى الاقتصاديّ، فرغم الدعاية الإعلاميّة المكثّفة “لمجهودات الحكومة” على غرار مؤتمر الاستثمار تونس 2020، وقانون السكن الأوّل وعقد الكرامة للتشغيل وغيرها من المبادرات الحكوميّة، إلاّ أنّ الزيارة الأخيرة لبعثة صندوق النقد الدولي في بداية شهر أفريل عكست تململ الهيئة المالية الدوليّة من “تراخ” حكومي في تنفيذ إملاءاتها وترجمته بتعطيل صرف القسط الثاني من القرض المتفّق عليه، والذّي لم تفرج عنه إلاّ إثر تعهّدات حكوميّة جديدة بتسريع الإستجابة العمياء لوصاياها والتي كان آخر ضحاياها التراجع الكبير لسعر صرف الدينار التونسي. وعود كانت بدورها سبب تنامي الخلاف بين الاتحاد العام التونسي للشغل ويوسف الشاهد والتي تصاعدت إلى حدود التلويح بإضراب عام في الثامن من شهر ديسمبر الفارط.

الفشل الاقتصاديّ لحكومة يوسف الشاهد لم يقتصر على عدم الرضا الدولي من آداء حكومته، بل عكسه تنامي الحراك الاحتجاجي في العديد من ولايات البلاد. فموجة الاحتجاجات “المناسبتيّة” في شهر جانفي تواصلت طيلة شتاء وربيع هذه السنة، لتصل أوّجها أواخر شهر أفريل الفارط والفشل الذريع لزيارة رئيس الحكومة لتطاوين في محاولة لفضّ إعتصام الكامور، تلاه تأجيل باقي الزيارات المبرمجة لولاية القيروان وولاية القصرين.

مشروع قانون المصالحة؛ أحد أبرز محاور التكهّنات

مشروع قانون المصالحة الذّي جاء بمبادرة رئاسيّة في جويلية 2015، قد يمثّل حسب الكثير من التكهّنات أحد أبرز محاور خطاب رئيس الجمهوريّة اليوم. هذا المشروع الذّي تمّ تعطيل تمريره في مناسبتين، سواء بالحراك الشعبي الذّي لقيه منذ اللحظة الأولى للإعلان عنه، ليتمّ إسقاطه فيما بعد عقب محاولة تمريره ضمن الفصل 61 من قانون المالية لسنة 2016، عاد من جديد ليثير الجدل السياسي والإعلامي إثر التسريب الأخير الذي نشره موقع نواة الجمعة 21 أفريل 2017 حول الخطة التواصليّة لرئاسة الجمهورية لتمرير نسخة جديدة من قانون المصالحة. التحرّكات المتواصلة لحملة مانيش مسامح واعتراض عدد من الأحزاب على هذا المشروع، دفعت البعض إلى تصوّر لجوء الرئيس إلى سيناريو الاستفتاء الشعبي خصوصا مع تواتر التصريحات التي تلمّح إلى هذا الخيار والتي كان آخرها تصريح عضو الهيئة العليا المستقلة للإنتخابات نبيل بافون حول استعداد الهيئة لتنظيم استفتاء مماثل. سيناريو قد يدفع حالة الاحتقان الشعبي والسياسيّ نحو الأقصى مع تزايد الرفض لمضمون هذه المبادرة وتفاقم استشراء الفساد الإداري والمالي والذّي يعتبر هذا القانون أداء أساسيّة للالتفاف على مبدأ المحاسبة وقطع الطريق على مسار العدالة الانتقاليّة.

خطاب الرئيس المرتقب في محاولة لإنقاذ حكومة يوسف الشاهد ليست الأولى، إذ بادر الباجي قائد السبسي إلى مناورة مماثلة في 22 نوفمبر 2016، لإنقاذ الشاهد عقب انسداد آفاق الحوار مع الاتحاد العام التونسي للشغل على خلفية قانون المالية لسنة 2017. تحرّك يعكس الحضور المهيمن لقصر قرطاج في القصبة رغم ما ينصّه الدستور من فصل بين صلاحيات كلا المؤسّستين.