قبيل ساعات من انعقاد الجلسة العامّة لمجلس نوّاب الشعب يوم الخميس 15 فيفري للمصادقة على قرار إعفاء محافظ البنك المركزي من منصبه، عقدت لجنة الماليّة جلسة استماع لرئيس لجنة التحاليل الماليّة والشاذلي العيّاري. جلسة شهدت المحاولات الأخيرة لإنقاذ ماء الوجه وردّ التُهم التّي حمّلت هذا الأخير دون غيره مسؤولية القرار الأوروبيّ لتنتهي بتقديمه استقالته. الإجراءات التي انطلقت بعد قرار رئيس الجمهورية إحالة مقترح رئيس الحكومة بإقالة الشاذلي العيّاري يوم 07 من الشهر الجاري، جاءت تزامنا مع إقرار البرلمان الأوروبي إدراج تونس على القائمة الأوروبية للدول الأكثر عرضة لمخاطر عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب والّتي أعدّتها المفوضية الأوروبية استنادا إلى تقرير مجموعة العمل المالي الدولية (GAFI-غافي).

القائمة الأوروبيّة الجديدة، التّي وضعت حدّا لمهام محافظ البنك المركزيّ، لم تكن سوى أحد النقاط السوداء في مسيرة هذا الأخير الذّي شهدت فترة ترأسه للبنك المركزي سجلاّ حافلا من الاتهامات بتجاهل أو تغطية ملفّات الفساد وأثارت جدلا حادا حول قراراته ودوره كالمسيّر الأوّل للذراع الماليّة للدولة في تمرير ترسانة من القوانين والإجراءات التي ستتواصل انعكاساتها السلبيّة على الوضع الإقتصاديّ المتأزّم حتّى بعد خروج الشاذلي العيّاري من مكتبه في شارع محمد الخامس.

فشل الرسملة وبتر الذراع الماليّة للدولة

شهدت السنوات الخمس الماضية، التي قضاها محافظ البنك المركزيّ على رأس هذه المؤسّسة الأهمّ في المنظومة الإقتصاديّة والماليّة للدولة تغييرات جذريّة على مستوى تحييد قدرة الدولة على التدخّل في السوق الماليّة وتحييد البنك المركزيّ عن دوره التعديليّ والتنموي عبر البنوك العموميّة. أولى هذه البصمات للمحافظ تتعلّق بالمصارف الحكوميّة. إذ انطلق المسار الفعليّ لعمليّة إصلاح البنوك العموميّة عند تنصيب الشاذلي العيّاري. حيث بدأت بعمليّة التدقيق الشامل سنة 2013 وإقرار رسملة البنوك العمومية سنة 2015 بتعبئة 860 مليون دينار من موارد الدولة الذاتيّة. عمليّة انتهت إلى الفشل مع تجميد مسار إصلاح هذه البنوك وغموض مصير الأموال المرصودة، ليعيد رئيس الحكومة يوسف الشاهد في 23 فيفري 2017 طرح امكانيّة التفويت في البنوك المذكورة خلال حوار متلفز. تصريح استنفر بدوره الجامعة التونسيّة للبنوك والمؤسّسات الماليّة، التّي استنكرت في بيان لها بتاريخ 27 فيفري 2017، نوايا الحكومة التفويت في البنوك العمومية معتبرة أنّ ضعفها يكمن في “عدم نجاعة آليات التشريع والإشراف لا في ملكية الدولة لرأس المال”. يغادر الشاذلي العيّاري منصبه دون أن يتمّ الحسم في قضيّة هذه المؤسّسات التّي تمثل عماد المشاريع التنموية الكبرى بثغرة ماليّة تقدّرب2500 مليون دينار ودون تحميل مسؤوليات واضحة في فشل برنامج الرسملة.

التماهي التّام مع الخيارات الاقتصادية والماليّة للحكومات المتعاقبة، تجلّى مرّة أخرى سنة 2016 في الدعم المطلق لمحافظ البنك المركزيّ للقانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي أو ما اصطلح على تسميته بقانون استقلاليّة البنك المركزي والذّي تمّت المصادقة عليه في 11 أفريل 2016 بعد جدل واسع صلب لجنة المالية وخلال الجلسة العامة. وقد استند دفاع الشاذلي العيّاري حينها عن هذا القانون بأنّ الوقت قد حان “للاستجابة لمتطلبات الحوكمة النقدية العصرية” وفكّ الارتباط “بمزاج السياسيين وإملاءاتهم مثلما كان في الماضي القريب”. مساندة هذا القرار الذّي جاء تنفيذا لاملاءات صندوق النقد الدوليّ والإصرار على تجريد الدولة من أدواتها الماليّة وتضييق خياراتها للتمويل الذاتيّ دفعت تونس لاحقا ثمنه غاليا. الانعكاس الأبرز لهذا القانون كان الإنهيار الكارثي لسعر صرف الدينار. إذ كان بمثابة الخطوة التمهيديّة لمسار تعويم الدينار التونسي. هذه الخطوة التي نفاها البنك المركزي التونسي في نوفمبر الفارط، أكّدتها وزيرة المالية لمياء الزريبي التي اعتبرت خيار تخفيض قيمة العملة الوطنية حلاّ لا مناص منه لتعديل الميزان التجاري عبر تقليص تدخّل البنك المركزي التونسي تدريجيّا وهو الذّي أوقف سنتي 2013 و2014 انزلاق العملة الوطنيّة بضخّ ما يناهز 2400 مليون دينار ليستقرّ سعر الصرف حينها في حدود 1.64 بالنسبة للدولار و2.14 بالنسبة للأورو. أمّا الانعكاس الثاني لهذا القانون فتجلّى في اتفاقيّة القرض المجمّع في 06 جويليّة 2017. هذه الاتفاقيّة التّي أبرمتها الدولة مع 13 بنكا تجاريّا خاصّا لإقراضها 700 مليون دينار أو ما يعادل 250 مليون أورو يتمّ سدادها بالعملة الصعبة، مثّلت التطبيق الحرفي للفصل 25 من القانون عدد 2015/64 المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي. حيث تمّ حرمان الدولة من الاقتراض من البنك المركزي وتنويع مصادرها وتضييق خيارات التمويل الذاتي بنسب متدنيّة وإجبارها على التوجه حصرا للبنوك التجاريّة وهيئات النقد الدوليّة لسدّ احتياجاتها الماليّة.

شاذلي العياري، كريستين لاقارد، المديرة العامة لصندوق النقد الدولي وسلم شاكر وزير المالية (آفريل 2016)

سياسة ركن الملفّات تكبّد الدولة مئات المليارات

حقبة محافظ البنك المركزي الشاذلي العيّاري ستظلّ محفورة في ذاكرة التونسيّين كواحدة من أشد الفترات تدهورا لا على المستوى الإقتصاديّ فحسب، بل على مستوى التعتيم على ملفّات الفساد واستغلال النفوذ أو الصفة الحزبيّة والخسائر الماليّة التي ناهزت إجمالا 750 مليون دينار عدى الخطايا المستوجبة على خلفيّة قضيّة البنك الفرنسي التونسي. محافظ البنك المركزيّ، وإن كان قد نفى في عدد من جلسات المسائلة التي كان آخرها اليوم امام لجنة المالية عن تورّط مؤسّسته في شبهات فساد أو تعتيم على التجاوزات الماليّة، إلاّ أنّ تحرّكات الجهات القضائيّة بداية هذا الأسبوع تفنّد ادعاءاته. حيث أصدر قاضي التحقيق بالقطب الاقتصادي والمالي بطاقتي إيداع في حق موظفيْن إثنين في البنك المركزي التونسي ليبقي على ثلاثة آخرين في حالة سراح. الفساد أو التعتيم على الفساد لم يقتصر على عمليات تبييض الأموال التي استحوذت على الاهتمام العام إثر إدراج تونس ضمن القائمة السوداء الثانية في ظرف شهرين، حيث تمّ الكشف في تحقيقات إعلاميّة عديدة عن تجاوزات كان البنك المركزي وكبار مسؤوليه إمّا طرفا مباشرا فيها أو تمّ إعتماد سياسة غضّ الطرف تجاه إخلالات أخرى.

رغم أنّ الشاذلي العيّاري قدّم استقالته مساء يوم أمس مستبقا إقالته من منصبه رسميّا قبل الجلسة العامّة لمجلس نوّاب الشعب، إلاّ أنّ مصير أحد أهمّ ملفّات الفساد في القطاع المالي والمصرفي ما يزال صندوقا أسود أبى محافظ البنك المركزيّ أو وزير أملاك الدولة أن يفتحوه رغم ضخامة الخسائر. فقضيّة البنك الفرنسي التونسي تعتبر مثالا حول تورّط مسؤولي البنك المركزي في التغطية على ملفّات الفساد وإهدار المال العموميّ. حيث تثبت محاضر الجلسات الوزاريّة التي نشرتها نواة سابقا تعمّد نائب محافظ البنك المركزي إخفاء حقيقة الوضع المالي للبنك الفرنسي التونسي عن نواب الشعب وعلمه المسبق بأنّ هذه المؤسّسة لم تعد قادرة على الإيفاء بالتزاماتها المالية منذ ديسمبر 2015، وهو تاريخ قرار الحكومة بدأ عملية تصفية هذا البنك. خلال هذه الإجتماعات التي ترأسها الحبيب الصيد، وبحضور محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري ومحمد رقيق، نائب محافظ البنك المركزي التونسي، دفع مسؤولو البنك المركزي وعلى رأسهم نادية قمحة، المديرة العامة بالبنك المركزي، نحو خيار التصفية التدريجيّة للبنك الفرنسي التونسي. خيار لم يستنكره أحد من الحاضرين على غرار وزير المالية سليم شاكر ووزير التنمية والاستثمار ياسين إبراهيم وممثلين عن وزارة الشؤون الخارجية ووزارة العدل. ليتمّ الاتفاق على عدم التطرّق إلى تحديد المسؤوليّات في قضيّة كلّفت الخزينة العمومية  أكثر من 700 مليون دينار تمّ تسجيلها كديون غير مستخلصة. هذا بالإضافة إلى مسار التقاضي لدىلجنة التحكيم التابعة للبنك الدولي CIRDIالذّي دام 30 سنة بين الدولة التونسيّة من جهة والمجموعة الاستثمارية ABCI. نزاع كلّف ما يناهز 35 مليون أورو كأتعاب للمحامين لينتهي المطاف إلى تحميل الدولة التونسيّة مسؤولية النزاع وتغريمها بمبلغ قد يتجاوز 400 مليون دينار.

مقر البنك الفرنسي التونسي

الدور السلبي للبنك المركزي التونسي لم يقتصر على التعاطي مع ملفّات الفساد، بل شمل السلبيّة في مواجهة تجاوزات حكوميّة خاصّة بالتعيينات على رأس المؤسّسات الماليّة العموميّة على الرغم من هشاشة موازناتها. سلبيّة تجلّت في عمليّة تغيير الرئيس المدير العام السابق لبنك تونس الخارجي صلاح الدين العجيمي وتعيين النائبة عن نداء تونس حياة كبير ڤوتة خلفا له. إذ اكتفى البنك المركزي بمذكّرة وجّهها إلى وزير المالية في 19 أوت 2015 مستعرضا الإشكاليات التقنية والسياسيّة والانعكاسات السلبيّة لمثل هذا القرار كإرباك المساهمين المرجعيّين ودفع السلطات الفرنسيّة إلى مزيد التشدّد إزاء حالة عدم الاستقرار التي يشهدها البنك. مذكّرة لم تتجاوز مجرّد التنبيهات التي لم تغيّر شيئا في واقع بنك تونس الخارجي الذّي سجّل خسائر بأكثر من 100 مليون دينار وخطايا مالية ناهزت 2 مليون دينار نتيجة غياب الشفافيّة وتأخّر التصريح بالمعاملات المالية لدى المصالح الفرنسيّة المختصّة في مؤسّسة ماليّة يمثّل فيها البنك المركزي التونسي المساهم المرجعيّ الرئيسي.

إصرار على الإنكار رغم التقارير والوقائع

خلص تقرير لجنة التحاليل المالية التابع للبنك المركزي التونسي إلى تحديد آليات عمليّة تبييض الأموال وكيفيّة توجيهها نحو تمويل الإرهاب، ليخلص إلى عدّة نتائج أهمّها أنّ “الساحة البنكية التونسية تلوح جدّ معرّضة للاستغلال من قبل غاسلي الأموال خاصّة في مرحلة التمويه أي المرحلة الثانية من المسار التقليدي لتبييض الأموال”.لتتحوّل تونس إلى بوّابة عبور لتدفّقات ماليّة ضخمة مجهولة المصدر.

وقد ركّز التقرير الصادر في 18 أفريل 2017 على أنّ عمليات غسيل الأموال تتركّز بالأساس عبر عمليات تهريب النقد برّا إضافة إلى دور الشركات غير المقيمة الناشطة بالأخصّ في مجال التجارة الخارجيّة والإستشارة والتّي يتجاوز عددها 29 ألف شركة يمثّل أكثر من 60 بالمائة منها محاضن لعمليّات ماليّة مشبوهة. كما يمثّل قطاع العقّارات ساحة مفتوحة لعميات غسل الأموال، إذ تمّ رصد أكثر من 100 ألف مسكن شاغر غير معدّ للكراء أو البيع. هذا وذكّرت لجنة التحاليل الماليّة أن القدرات البشريّة التونسيّة في المؤسسات الماليّة ينقصها التأطير الضروري لمكافحة عمليات تبييض الأموال علاوة على غياب استراتيجيّة رقابيّة شاملة للتعاطي مع هذه المعضلة والتّي يعطّلها من جهة أخرى تفشّي الفساد على مستوى الديوانة التونسيّة عبر إسناد التصاريح على خلاف الصيغ القانونيّة.

هذه المعطيات الوافية الواردة في تقرير لجنة التحاليل الماليّة، إضافة إلى تقرير مجموعة العمل المالي الدولية (GAFI-غافي) وتتالي الإجراءات والتشريعات الخاصّة بالقطاع المالي والمصرفيّ والتّي ساهمت في تفاقم الأزمة الإقتصاديّة، لم تفتح عينا الشاذلي العيّاري على الخلل المزمن الذّي تعاني منه المنظومة الماليّة والبنكيّة في تونس والإرتدادات السلبيّة للخيارات الإقتصاديّة للمنظومة الحاكمة التّي كان جزء منها. إذ لم يبدو عليه خلال جلسة الإستماع في مجلس نوّاب الشعب أيّ بادرة لمراجعة مواقفه السابقة وهو قاب قوسين من مغادرة مهامه، ليختصر الازمة ومعاونوه في إجراءات تقنيّة بسيطة وتضارب المواقيت وبطئ تونس في تنفيذ توصيات هيئات النقد الدوليّة التّي تفانى محافظ البنك المركزيّ في تنفيذها حرفيّا خلال السنوات الماضية.